إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من

يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له والحمد لله الذي أخرجنا بالإسلام من ظلمات

الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ، والحمد لله

الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، وشرع الإسلام وجعل له منهجاً وأعز أركانه

على من غالبه ، فجعله أمناً لمن تمسك به ، وسلماً لمن دخله ، وبرهاناً لمن تكلم به ،

وشاهداً لمن خاصم عنه ، ونوراً لمن استضاء به ، وفهماً لمن عقل ، ولباً لمن تدبر ، وآيةً لمن

توسم ، وتبصرةً لمن عزم ، وعبرة لمن اتعظ ، ونجاة لمن صدق ، وثقة لمن توكل ، وراحة لمن

فوض ، وجنة لمن صبر وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده

ورسوله، أرسله بدين الهدى ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فأنار به سبل الخير، ودروب

الرشاد، فأمات الكفر والضلالات، ومحا الزيغ والهوى، وأحيا السنن، وأمات البدع، عليه الصلاة

والسلام، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.


 إرشاد الفحول إلى التأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم  I_a7391fd7764

إنَّ نِعمَ الله تعالى جميلة كريمة، ومِننَه جزيلة عظيمة، وآثارها غزيرة عَمِيمَة، وإنَّ المرء إذا أَنْعَمَ

نظره وأمعن فكره فيها؛ وجد في نفسه ما يدفعه إلى حسن التَّأمُّل وطيب التَّحلِّي والتَّجمُّل بهذه

النِّعم، مستظهرًا بها، مستشعرًا إيَّاها؛ ذلك أنَّ الله يحبُّ أن يرى أثـر نعمتـه على عبده ﴿وَمَا بِكُم

مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾[النحل:53].


ونِعمُ الله لا تُحاط بحدٍّ ولا تُحصى بعدٍّ، قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾[إبراهيم:34].

فَمِنْ نِعَمِ الله على العالمين: إرسال النَّبيِّ الأمين إلى النَّاس كافَّةً؛ رحمةً لهم أجمعين، قال

تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾[الأعراف:158]، وقال تعالى: ﴿وَمَا

أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾[سبأ:28]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين﴾[الأنبياء:107]،

وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» رواه الحاكم وهو في «السلسلة الصحيحة»

للألباني رقم (490).


ومن بالغ إفضاله وسابغ امتنانه على المؤمنين أن بعث فيهم رسولًا إليهم من جنسهم؛ ليتمكَّنوا

من مخاطبته ومجالسته وسؤاله ومراجعته في فهم الكلام عنه والانتفاع به، قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ

الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ

وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين﴾[آل عمران:164].


ومن أبلغ الامتنان على عباده، إرسال هذا الرَّسول الكريم الَّذي أنقذهم الله به من الضَّلالة،

وعصمهم من الهلكة؛ يأمرهم بالمعروف ـ بالتَّوحيد والطَّاعة وسائر مكارم الأخلاق ـ، وينهاهم عن

المنكر ـ الشِّرك والمعصية وسائر مساوئ الأخلاق ـ قال حذيفة بن اليمان للرَّسول صلى الله عليه

وسلم: «يا رسول الله! إنَّا كنَّا في جاهلية وشرٍّ وجاء الله بهذا الخير...» رواه البخاري (3606،

7084)، وهو شديد الرَّأفة عليهم وأرحم بهم من وَالِدِيهم، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم

للأنصار عندما بلغته عنهم مقالة: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ بي،

وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي، وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللهُ بِي»، [كلَّما قال شيئًا قالوا:] «الله ورسوله

أمنُّ...»رواه البخاري (4330) ومسلم (1061).


وهو صلى الله عليه وسلم في غاية العناية بالمؤمنين والسَّعي في جلب الخير وإيصاله إليهم

والحرص على هدايتهم، يدفع عنهم الشَّرَّ ويكْرَهُهُ لهم، ويرأف بهم رأفةَ الأمِّ على ولدها أو أكثر،

ويشقُّ عليه ما يشقُّ عليهم ويعنتهم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا

عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾[التوبة:128]، بل كانت شفقته على قومه كافَّة،

مؤمنهم وكافرهم، محبّهم ومبغضهم.


فعن عائشة رصي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشدَّ

من يوم أُحُدٍ؟ قال: «لَقيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدّ مَا لَقيتُ مِنْهُمْ يَوْم العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي

عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيل بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي،

فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ،

فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ

بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ».


قَالَ: «فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا

مَلَكُ الجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ

الأَخْشَبَيْنِ».


فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ

لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»رواه البخاري (3231) ومسلم (1795).


وفي الحديث بيانُ صبرِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم في سبيل دعوته، وحلمه على قومه،

وصفحه عن خصمه، وتجاوزه عن أذاهم، حيث استأْنَى بهم واستبقاهم من الهلاك الَّذي حاق

بهم، أملًا في الله ورجاءَ أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له.


فيا لها من سريرة نقيَّة، وسيرة طيِّبة مرضيَّة لمن أراد خير الآخرة، وحكمة الدُّنيا، وعدل السِّيرة،

واستحقاق الفضائل بأسرها والاحتواء على محاسن الأخلاق كلِّها، فعن عمرو بن العاص رضي

الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبل بوجهه وحديثه على أشرِّ القوم،

يتألَّفهم بذلك، فكان يُقبل بوجهه وحديثه عليَّ، حتَّى ظننتُ أنِّي خيرُ القوم، [فقلت: يا رسول

الله! أنا خير أو أبو بكر؟ قال: «أبو بكر»]، فقلت: يا رسول الله! أنا خيرٌ أو عمر؟ فقال: «عمر»،

فقلت: يا رسول الله! أنا خير أم عثمان؟ قال: «عثمان»، فلما سألتُ رسول الله صلى الله عليه

وسلم فَصَدَقَنِي، فَلَوَدِدْتُ أنِّي لم أَكُنْ سألتُه» حديث حسن: خرجه الألباني في «مختصر

الشمائل» (295).


وكانت دعوته لقومه بالحكمة والموعظة الحسنة، حتَّى إنَّ كلامه ليأخذ بمجامع القلوب، ويسبي

الأرواح، لما فيه من حلاوة المنطق وسرعة الأداء وعذب الكلام، بعيدًا عن الفحش والتَّفحُّش

والجدل والخصام، ممتَثلًا أمر الملك العلَّام: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[النحل:125].


وعن عائشة رضي الله عنهما قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرًا من

مظلمةٍ ظُلمها قطُّ ما لم ينتهك من محارم الله شيء، فإذا انتُهك من محارم الله شيء كان من

أشدِّهم في ذلك غضبًا، وما خيِّر بين أمرين إلَّا اختار أيسرهما؛ ما لم يكن مأثَمًا»«مختصر

الشمائل» للألباني رقم (300) وهو بلفظ مقارب لما في «الصحيحين».


وإنَّ دعوته صلى الله عليه وسلم قويَّة في مبناها وقويمة في معناها، سَنيَّة معالمها وسُنِيَّة

خصائصها قائمة على الفهم السَّليم، وسائرة في النَّهج القويم، على هدي ما جاء في القرآن

الكريم: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ

الْمُشْرِكِين﴾[يوسف:108].


وكان بلاغه جامعًا وعامًّا، وبيانه نافعًا وهامًّا، وكلامه مانعًا وتامًّا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ

مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾[المائدة:67]، فكان القدوة المثاليَّة للدُّعاة الحكماء، والأسوة الواقعية للوعاة

الأمنا