بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد، فإن من المغالطات التي ابتلينا بها في هذا العصر قول المتجرئن على فهم النصوص الشرعية :

نحن نتبع القرآن والسنة ، وإذا خالف قول إمام ما القرآن والسنة ، فإنما نأخذ القرآن والسنة ونطرح قول ذلك الإمام
ولا يدري هذا المسكين أن حقيقة قوله :
أنا أتبع هذا الإمام إن وافق فهمه ما فهمته أنا من القرآن والسنة
فيجعل بجهله " فهمه " للنص هو " عين النص "
ثم يجعل من خالفه في " فهم " النص مخالفا " لعين النص "

وسبب ذلك الغفلة عن بعض الأساسيات التي هي من أول ما يدرسه طالب علم أصول الفقه

وبينا هذا أنه هناك :

1. دليل
2. وجه دلالة وعملية استدلال
3. ومستدل ببيان وجه الدلالة من الدليل

ثم يكون الحكم


وهذا بعض توضيح لما سبق ذكره :

قال شيخ الإسلام زكريا في غاية الوصول :

الدليل : (والدليل) لغة : المرشد وما به الإرشاد
واصطلاحا : (ما) أي شيء (يمكن التوصل) أي الوصول بكلفة (بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري)
بأن يكون النظر فيه من الجهة التي من شأنها أن ينتقل الذهن بها إلى ذلك المطلوب المسماة وجه الدَّلالة
والخبري : ما يخبر به،
ومعنى : الوصول إليه بما ذكر علمه أو اعتقاده أو ظنه اهـ بتصرف



وأما عن كيفية استفادة المدلول من الدليل ، فيقول الإمام الإسنوي :

قوله: "وكيفية الاستفادة منها"
ومعرفة كيفية استفادة الفقه من تلك الدلائل أي استنباط الأحكام الشرعية منها، وذلك يرجع إلى معرفة شرائط الاستدلال كتقديم النص على الظاهرة والمتواتر على الآحاد ونحوه، كما سيأتي في كتاب التعادل والترجيح،

فلا بد من معرفة تعارض الأدلة ومعرفة الأسباب التي يترجح بها بعض الأدلة على بعض، وإنما جعل ذلك من أصول الفقه لأن المقصود من معرفة أدلة الفقه في استنباط الأحكام منها، ولا يمكن الاستنباط منها إلا بعد معرفة التعارض والترجيح ؛ لأن دلائل الفقه مفيدة للظن غالبا والمظنونات قابلة للتعارض محتاجة إلى الترجيح فصار من معرفة ذلك من أصول الفقه اهـ بتصرف نهاية السول



ثم في بيان حال المستفيد من الدليل ، أي المستنبط للمدلول المبين وجه الدلالة يقول الإمام الإسنوي :

وقوله: "وحال المستفيد"
أي ومعرفة حال المستفيد وهو طلب حكم الله تعالى
فيدخل فيه المقلد والمجتهد كما قال في الحاصل ؛ لأن المجتهد يستفيد الأحكام من الأدلة، والمقلد يستفيدها من المجتهد،
وإنما كان معرفة تلك الشروط من أصول الفقه، لأنا بينا أن الأدلة قد تكون ظنية وليس من الظن ومدلوله ارتباط عقلي لجواز عدم دلالته عليه، فاحتاج إلى رابط وهو الاجتهاد اهـ بتصرف نهاية السول



ثم إن ذلك مشروط بأن يكون على طريقة أو منهجية أو مدرسة من المدارس ، أو مذهب من المذاهب التي اعتمدت في فهم النصوص


قال الإمام ابن حجر في التحفة :

(عمدة في تحقيق المذهب) أي بيان الراجح وإيضاح المشتبه منه،
وأصله - [ أي المذهب ] - مكان الذهاب
ثم استعير لما يذهب إليه من الأحكام تشبيها للمعقول بالمحسوس ، ثم غلب على الراجح اهـ

ثم إن أضيف " المذهب " إلى إمام مجتهد كالإمام الشافعي صار التقدير :
طريق الشافعي ، أو ما يذهب إليه الشافعي من أحكام
وإنما هو المستدل
فيذهب إلى الأحكام بالاستدلال وبيان وجه الدلالة من الدليل


فعندما نقول : مذهب الشافعي كذا ، أو ذهب الشافعي إلى كذا
نعني : نظر الشافعي في الدليل ، واستنبط منه بناء على ما عنده من أصول في الفقه واللغة والحديث والجرح والتعديل ، والتفسير ، وأصو الفقه إلخ ...
أي بناء على ما سبق أعمل ذلك في النص ، فوصل إلى النتيجة التي هي الحكم


فمن تأهل وكان له من العلم الذي يمكنه من إنشاء طريقة فيما سبق من علوم وغيرها ، فقد صار له مذهبا أي طريقا لفهم النصوص
مستقلا عن غيره من الأئمة


وبقدر الارتقاء في العلم والترقي في سلمه ، بقدر ما يعطى المرء من صلاحيات في النظر في الأدلة والتخريج والاجتهاد ، ولينظر هنا لمزيد تفصيل :

http://www.aslein.net/showthread.php?t=12552



ولما تعذر هذا على أغلب العلماء ، وكانت لابد من طريقة متكاملة لفهم النص ، مراعا فيها منهجية السلف اضطر الناس إلى تقليد من وصلهم مذهبه من أئمة السلف ، بشرط أن يكون وصلهم كاملا محررا من حيث نسبة الأقوال إلي إمامه ، ومن حيث بيان القواعد والضوابط والملابسات التي بسببها أفتى الإمام بما أفتى ، وفرع الإمام قولا ، وعلى أي أصل اعتمد ، ولماذا قال هنا كذا وهناك كذا ، وماذا اعتمد من حيث تعديل رواة الحديث ، ومن حيث تجريحهم ، وماذا كان يفعل إذا تعارض عنده ظني مع ظني آخر ، وماذا إن كان التعارض بسبب نسخ ، وماذا إن عارض ظني قطعي ، أو جاء ناسخا له ، أيعتبر ؟ إلى غير ذلك مما يعرض للمجتهد أثناء عملية الاستدلال


وعملية الاستدلال من حيث كونها عملية استنباطية وترجيحية تحتمل أمورا كثيرة جدا من أوجه في الترجيح ، وطرق في الاستدلال
وإن المعتبر من ذلك كله هو فهم الدين كما فهَّمه النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته ، أي طريقة الفهم ، لا فقط المسائل المفهومة

ففهم مغاير لفهمهم إن لم يكن ابتداع في الدين فما ؟

إذ البدعة كما يقول الإمام الغزالي في القسطاس عبارة عن : إحداث مقالة غير مأثورة عن السلف ، فكيف يكون القول فيما يحدث طريقة أو منهجية أو مدرسة في فهم النصوص والاستنباط غير معتمدة من السلف ولا معتبرة

ذلك إنه ما أسهل أن ينظر امرء في أقوال الأئمة فيما سبق من علوم ، وينتقي منها ما يراه بفهمه ، ويلفق منه طريقة لفهم الدين ، ولكن أنى له أن يأتي بما يثبت اعتماد طريقته من قبل السلف !

فإن كل إمام مجتهد شهد له من أئمة عصره المجتهدين ، المشهود لهم من أئمة عصرهم المجتهدي إلى علماء الصحابة بالاجتهاد

ثم بعدُ توقفت الشهادة بالاجتهاد المطلق لما لم ير أهل العصر من يصلح ويتأهل لذلك ، فكان لابد أن ينتمي من قصر عن ذلك إلى مدرسة أو منهجية او مذهب إمام مجتهد


ولينظر في اندراج مذاهب السلف المندثرة في المذاهب الأربعة المعتمدة هنا :

http://www.aslein.net/showthread.php?t=12385&page=1



فمن أراد فقه ومنهجية السلف فلن يسعه إلا الدخول في مدرسة منها ، إذ هي الوحيدة المنقولة على الصفة المعتبرة من حيث تحرير نسبة الأقوال إلى أئمتها ، وضبط قواعدها وأصولها ، وبيان اندراك فروعها تحت أصولها ، وكيفية تخريج الأقوال الجديدة على ذلك إلخ ...
ويبين الإمام ابن الصلاح ذلك فيقول فيما يتمذهب المقلد به من مذاهب السلف :

وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من الأولين وإن كانوا أعلم وأعلا درجة ممن بعدهم لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه فليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر
وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناخلين لمذاهب الصحابة والتابعين القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها كمالك وأبي حنيفة وغيرهما اهـ


وفي تقليد الصحابة يقول الزركشي :

ذهب إمام الحرمين وغيره أن العامي لا يقلده، ونقله عن إجماع المحققين، قالوا:
وليس هذا لأن دون المجتهدين دون الصحابة، معاذ الله: فهم أعظم وأجل قدرا، بل لأن مذهبهم لم يثبت حق الثبوت كما ثبتت مذاهب الأئمة الذين لهم أتباع قد طبقوا الأرض، ولأنهم لم يعتنوا بتهذيب مسائل الاجتهاد ولم يقرروا لأنفسهم أصولا تفي بأحكام الحوادث كلها،
بخلاف من بعدهم فإنهم كفوا النظر في ذلك وسبروا ونظروا وأكثروا أوضاع المسائل.

ونازع المقترح وقال: لا يلزم من سبر الأئمة الأربعة وجوب تقليدهم، لأن من بعدهم جمع سبرا أكثر منهم. وينبغي أن يتبع المتأخرين منهم على قضية هذا.
قال: إنما الظاهر في التعليل في العوام أنهم لو كلفوا تقليد الصحابة لكان فيه من المشقة عليهم ما لا يطيقون من تعطيل معاشهم وغير ذلك، فلهذا سقط عنهم تقليد الصحابة قلت: وسئل محمد بن سيرين فأحسن فيها الجواب، فقال له السائل ما معناه: ما كانت الصحابة لتحسن أكثر من هذا، فقال محمد: لو أردنا فقههم لما أدركه عقولنا. رواه أبو نعيم في الحلية ".

ومال ابن المنير إلى ما قاله الإمام ولكن لغير هذا المأخذ فقال ما حاصله:
إنه يتطرق إلى مذهب الصحابة احتمالات لا يتمكن العامي معها من التقليد: من قوة عباراتهم واستصعابها على أفهام العامة.
ومنها: احتمال رجوع الصحابي عن ذلك المذهب، كما وقع لعلي وابن عباس وغيرهما. -
ومنها: أن يكون الإجماع قد انعقد بعد ذلك القول على قول آخر. -
ومنها: أن لا يكون إسناد ذلك إلى الصحابة على شرط الصحة.
وهذا بخلاف مذاهب المصنفين فإنها مدونة في كتبهم وهي متواترة عنهم بنقلها عن الأئمة،

فلهذه الغوائل حجرنا على العامي أن يتعلق بمذهب الصحابي.
ثم وراء ذلك غائلة هائلة، وهي أنه يمكن أن الواقعة التي وقعت له هي الواقعة التي أفتى فيها الصحابي ويكون غلطا، لأن تنزيل الوقائع على الوقائع من أدق وجوه الفقه وأكثرها للغلط.

وبالجملة فالقول بأن العامي لا يتأهل لتقليد الصحابة قريب من القول بأنه لا يتأهل للعمل بأدلة الشرع ونصوصه وظواهره. إما لأن قول الصحابي حجة على أحد القولين فهو ملحق بقول الشارع، وإما لأنه في علو المرتبة يكاد يكون حجة، فامتناع تقليده لعلو قدره لا لنزوله.

وأما ابن الصلاح فجزم في كتاب الفتيا " بما قاله الإمام وزاد أنه لا يقلد التابعين أيضا ولا من لم يدون مذهبه، وإنما يقلد الذين دونت مذاهبهم وانتشرت حتى ظهر منها تقييد مطلقها وتخصيص عامها، بخلاف غيرهم فإنه نقلت عنهم الفتاوى مجردة، فلعل لها مكملا أو مقيدا أو مخصصا، أو أنيط كلام قائله، فامتناع التقليد إنما هو لتعذر نقل حقيقة مذهبهم.

وعلى هذا فينحصر التقليد في الأئمة الأربعة والأوزاعي وسفيان. وإسحاق وداود على خلاف في داود حكاه ابن الصلاح وغيره، لأن هؤلاء هم ذوو الأتباع. ولأبي ثور وابن جرير أتباع قليلة جدا.
وذهب غيرهم إلى [أن] الصحابة يقلدون لأنهم قد نالوا رتبة الاجتهاد، وهم بالصحبة يزدادون رفعة. وهذا هو الصحيح إن علم دليله.

وقد قال الشيخ عز الدين في فتاويه " إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله. وقد قال: لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقا، وإلا فلا، [لا] لكونه لا يقلد، بل لأن مذهبه لم يثبت حق الثبوت.

وقال ابن برهان: تقليد الصحابة ينبني على جواز الانتقال في المذاهب فمن منعه قال: مذاهب الصحابة لم تكثر فروعها حتى يمكن المكلف الاكتفاء بها فيؤديه ذلك إلى الانتقال، وهو ممنوع، ومذاهب المتأخرين ضبطت، فيكفي المذهب الواحد المكلف طول عمره، فيكمل هذا الحكم وهو منع تقليد الصحابة.
وقال إلكيا، بعد أن قرر منع الانتقال: الواحد منا لا يأخذ بمذهب الصحابة إذا كان مقلدا، بل يأخذ بمذهب الشافعي أو غيره من أرباب المذاهب، من حيث إن الأصول التي وضعها أبو بكر لا تفي بمجامع المسائل. وأما الأصول التي وضعها الشافعي وأبو حنيفة فهي وافية بها. فلو قلنا بتقليد الصديق في حكم لزم أن يرجع إليه في حكم آخر، وقد لا يجده اهـ



قلتُ :

وقد يقال : آخذ ببعض أصول أبي بكر ، وبعض أصول عمر وبعض أصول عثمان وبعض أصول علي

فأقول :
تكون لفقت مذهبا لم يعتمده أحد بهذا الشكل الملفق الجامع لأصول قد تتضارب ، وقد لا ، وإن لم تتضارب فإن تنسيقها والجمع بينها إنما هو تنسيق لمذهب لم يُعتمد من السلف ولم يتلقى منهم ، مع تصريحهم بانقطاع مؤهل لذلك ، ولينظر هنا :
http://www.aslein.net/showthread.php?t=14208


وفي ذلك يقول الزركشي في البحر :

مسألة :

القائلون بالتقليد أوجبوا التقليد في هذه الأعصار ومستندهم فيه أنهم استوعبوا الأساليب الشرعية فلم يبق لمن بعدهم أسلوب متماسك على السبر.
ولهذا لما أحدثت الظاهرية والجدلية بعدهم خلاف أساليبهم قطع كل محقق أنها بدع ومخارق لا حقائق. لكن الجدلية يعترفون بأن الشريعة لا تثبت بتلك الأساليب الجدلية، وإنما عمدتهم في استحداثها تمرين الأذهان وتفتيح الأفكار. وأما كونهم يعتقدون أنها مستندات وحجج عند الله يلقى بها فلا.
وأما الظاهرية فلما أحدثوا قواعد تخالف قواعد الأولين أفضت به إلى المناقضة لمجلس الشريعة، ولما اجترءوا على دعوى أنهم على الحق وأن غيرهم على الباطل أخرجوا من أهل الحل والعقد، ولم يعدهم المحققون من أحزاب الفقهاء، وسبق في باب الإجماع الكلام على أنه هل يعتد بخلافهم؟
وهذا كله يوضح أن الضرورة دعت المتأخرين إلى اتباع المتقدمين، لأنهم سبقوهم بالبرهان حتى لم يبقوا لهم باقية يستبدون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولكن الفضل للمتقدم، وظهر بهذا تعذر إثبات مذهب مستقل بقواعد. اهـ

وسيأتي مثله عن ابن رجب مما يؤيد ما سبق ويقررضرورة اتباع مناهجهم وطرقهم في فهم النصوص .



وقال ابن رجب الحنبلي في فضل علم السلف على الخلف :
فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولا به عند الصحابة: ومن بعدهم: أو عند طائفة منهم فأما ما اتفق على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به
قال عمر بن عبد العزيز : خذوا من الرأي ما يوافق من كان قبلكم فإنهم كانوا أعلم منكم اه

ثم يقول :

وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين انه أعلم ممن تقدم. فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله. ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين. وهذا يلزم منه ما قبله لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولا ممن كان قبلهم فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله كان أعلم ممن كان أقل منهم قولا بطريق الأولى. كالثوري والأوزاعي والليث. وابن المبارك. وطبقتهم. وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضاً.

فإن هؤلاء كلهم أقل كلاماً ممن جاء بعدهم وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم ولا حول ولا قوة إلا باللَه
ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة أنهم أبر الأمة قلوباً. وأعمقها علوماً. وأقلها تكلفاً. وروي نحوه عن ابن عمر أيضاً.
وفي هذا إشارة إلى أن من بعدهم أقل علوماً وأكثر تكلفاً.

وقال ابن مسعوداً أيضاً : إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح ومن كان بالعكس فهو مذموم.
وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه. وأهل اليمن أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك. وهذا هو الفقه والعلم النافع فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق.

فضبط ما روي عنه في ذلك أفضل العلوم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه
وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه إلا أن يكون شرحاً لكلام يتعلق من كلامهم

وأما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه. وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة
فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة مالا يهتدى إليه من بعدهم ولا يلم يه.

فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم. ويحتاج من أراد جمع كلامهم إلى معرفة صحيحة من سقيمه وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك ويلتبس عليه حقه بباطله. ولا يثق بما عنده من ذلك كما يرى من قل علمه بذلك لا يثق بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف لجهله بصحيحه من سقيمه فهو لجهله يجوز أن يكون كله باطلا لعدم معرفته بما يعرف به صحيح ذلك وسقيمه.

قال الأوزاعي العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما كان غير ذلك فليس بعلم: وكذا قال الإمام أحمد
وقال في التابعين : أنت مخير يعنى مخيرا في كتابته وتركه: وقد كان الزُهري يكتب ذلك وخالفه صالح بن كيسان ثم ندم على تركه كلام التابعين.

وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد: وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو يأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله. اهـ



ويقول ابن رجب :

فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث. وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام. والزهد. والرقائق. والمعارف. وغير ذلك والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولا.
ثم الاجتهاد على الوقوف في معانيه وتفهمه ثانياً.
وفي ذلك كفاية لمن عقل. وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل. اهـ




فانظر يا رعاك الله إلى حثه على اقتفاء أثرهم ، والبحث عن فتاواهم وأقوالهم ، الصحيح منها والمنقح
فما بالك باقتفاء منهجيتهم والبناء على أصولهم ؟
وهل مفهوم المذهب إلا هذا ؟؟



قال الشيخ الخطيب الشربيني في شرح مقدمة المنهاج :

(وقد أكثر أصحابنا) أي: أتباع الشافعي - رضي الله تعالى عنه -، فالصحبة هنا الاجتماع في اتباع الإمام المجتهد فيما يراه من الأحكام فهو مجاز سببه الموافقة بينهم، وشدة ارتباط بعضهم ببعض كالصاحب حقيقة اهـ


وهل يكون ذلك دون فهم أصوله وقواعده وضوابطه إلخ ... أي منهجيته المستنبطة من خلال النظر في صنيعه مع النصوص من حيث الاستنباط والتعارض والترجيح والتأويل والاستدلال ..

وهل قواعد المذهب إلا ضوابط لتلك العملية الاستدلالية مستندها الاستقراء والتتبع مع كثير تحليل ونظر وتأمل في صنيع الإمام ؟

وهل يكون التأهل للاستنباط الصحيح المعتمد إلا بتشرب هذه القواعد المورث الملكة المنضبطة على وفق مدرسة ومنهج إمام معتمد من السلف الصلاح إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم



فإن الدين نقل إلينا : لفظا ومعنى
حفظ الله تعالى ألفاظ القرآن والسنة
وكما حفظ الله مصادر الدين ، حفظ لنا طريقة ومنهجية فهم النصوص
فكلامها منقول محرر منقح معتمد


وأما من اختار عدم المبالاة بفهم السلف للدين ، فلا يعبأ بهذا كله ولا يلتفت له ،
فليسعه ما وسع غيره ممن خرج عن منهج السلف والصحابة ، ومن تبعهم من أهل السنة إلى يومنا ، ألا وهو الإنكار والتقريع والهجر والتحذير منه ، لا بارك الله له فيما شذ به من منهج .

والله من وراء القصد ، هو حسبنا ونعم الوكيل ، والحمد لله رب العالمين