كتبه/ محمد يوسف رشيد الحنفي

18/2/2012م


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدي سيد الخلق أجمعين وآله وصحبه..

وبعد..

ينسبون للكرخي قوله: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ




والجواب على هذه الشبهة من وجهين:

الوجه الأول/ وبه يظهر عدم تحقيق المستدل بها على فساد التمذهب، وعلى تبييته نية الإفساد، وأنه يثبت قبل أن يستدل، فإذا أثبت ذهب يبحث عن الدليل. فأقول:

بالتسليم بصحة المنقول عن الكرخي نصا وتفسيرا، فإن ذلك يدل على فساد الكرخي وتعصبه لا على فساد التمذهب، فكلامه حينئذ دليل على ما هو أخص من التمذهب بأحد المذاهب الأربعة، وهو (التعصب) للمذهب المتبع، وحصر الصواب فيه، والقطع بصحة كل ما يقوله صاحب المذهب وأتباعه، وهذا الشأن ليس هو شأن (التمذهب) فلا يستدل به على ما يعم التمذهب.

فيكون شأن المستدل كمن قال لي: أنت متعصب لمذهب أبي حنيفة.

قلت: وهل رأيت علي تعصبا؟

قال: لأنك تقول بصحة الزواج بدون ولي.

قلت: هذا مذهبي ليس أكثر.

قال: وهذا خلاف الراجح.

...

فهذا يعني أن تعصب الحنفي هو لمجرد كونه حنفيا، وحتى لا يكون متعصبا فلابد وأن يترك التمذهب أصلا، وهذا واضح البطلان عند كافة العقلاء لليقين بالتباين بين اتباع المذهب وبين القدر الزائد وهو التعصب واعتقاد العصمة في المذهب.


الوجه الثاني: بإبطال المنقول عن الكرخي نصا وتفسيرا.


أما نصا: فإن الكرخي لم يقل تلك الجملة التي نقلها الشيخ السيد سابق غفر الله له في تقديمه لكتاب "فقه السنة" والتي نصها:

"كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ" هكذا نص الجملة كما في مقدمة السيد سابق

وهذا تزوير على الكرخي؛ لأن هذه الجملة مركبة من كلامين منفصلين للكرخي، وكل كلام من الكلامين هو قاعدة منفصلة من القواعد الفقهية التي صنفها الكرخي في مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وهي مطبوعة في آخر كتاب "تأسيس النظر" للإمام أبي زيد الدبوسي.

وأما تفسيرا: فكلام الكرخي هو في قواعد فقهية في الدراسة بالمذهب، وليس الكلام في أصول التشريع كما يوهم البتر من السياق.!


ومن هنا نفهم أن التزوير لم يقع - فقط - في (نص) كلام الكرخي، بل وقع كذلك في (موضوعه)لأن الكلام في [القاعدة الققهية] هو كلام في داخل المذهب، وهذا له فائدته في فهم الكلام، لأن الذي يتلقى هذا التقعيد هو الطالب الذي يدرس مذهب الإمام أبي حنيفة، فالكلام إذا مقيد، وليس على إطلاقه على المستوى التشريعي كما قد يفهم من الاقتباس المزور.

فحين أعلم الطالب قاعدة فأقول له - وهو نص الكرخي - :

[ الأصل أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق]


فهذه قاعدة فقهية للطالب الحنفي، أي الذي يدرس على فهم واستنباط المذهب، فإن جاء حكم في المذهب يراه الطالب مخالفا لآية قرآنية أو حديث نبوي شريف فهذا يعني أن أهل المذهب قد قالوا بالنسخ أو التأويل، وهذا أمر ضروري جدا أن نفهمه، لأن الآية القرآنية أو الحديث الصحيح إذا وجدنا أبا حنيفة يقول بخلاف ما نفهمه فيهما فلابد وأن يكون قائلا بالنسخ أو بالتأويل، كصرف للنص عن ظاهره لأدلة أخرى واعتبارات تظهر للفقيه.

وهل يمكن أن نقول إن إماما من الأئمة الأربعة يتعمد مخالفة الآية والحديث؟!وإنما المقصود بيان الوجه الذي به تصرف الإمام مع النص، لذلك قلنا إن الكلام قاعدة فقهية يدرسها الطالب الحنفي.

القاعدة الثانية - وهي كذلك نص الكرخي - :

[ الأصل أن كل خبر - أي حديث - يجيء بخلاف قول أصحابنافإنه يحمل على النسخ أو على أنه معارض بمثله ثم صار إلى دليل آخرأو ترجيح فيه بما يحتج به أصحابنا من وجوه الترجيح، أو يحمل على التوفيق، وإنما يفعل ذلك على حسب قيام الدليل، فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليه، وإن قامت الدلالة عليه صرنا إليه]

ويقال فيه ما قلته في القاعدة الأولى، من كون ذلك قاعدة تُفهم بها تصرفات أئمة المذهب.

ووراء كل قاعدة من القاعدتين شرح تمثيلي يذكر صورا من فروع المسائل، مما يوضح كونها قاعدة فقهية تُشرح كغيرها من القواعد.

ولا ريب ولا توقف في تأييدنا لكلام الكرخي رحمه الله، وأنه لا يُنازع فيه، فلا نظن بأحد الأئمة الأربعة أن يخالف آية أو حديثا إلا إن كان منسوخا عنده أو مؤولا. وعليه يُفهم كلام الكرخي كما هو بيِّن في سياقه دون بتر وتلفيق كما وقع في الجملة التي شُهِرت عنه دون تبيُّن.

والله تعالى أعلم.