السلام عليكم

اقرأ بقلبك ما أنقله لك منن كتاب الرسالة "الرسالة التبوكيّة" لابن القيم رحمه الله

كلام رائع في:الهجرة إلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم!!

وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعَلَمٌ لم يبق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بُنيّاتُ الطريق سوى رسْمَه، ومحجة سَفَتْ عليها السوافي فطمست رسومَها، وغارتْ عليها الأعادي فغوّرت مناهلها وعيونها

فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حيّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون، مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبه، لا يقرّ قراره حتى يظفر بأربه، فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمقصده

نامت في طلب الهدى أعينهم، وما ليل مطيته بنائم، وقعدوا عن الهجرة النبوية، وهو في طلبها مشمر قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويزرون عليه إزراءَه على جهالاتهم وأهوائهم، قد رجموا فيه الظنون، وأحدقوا فيه العيون، وتربصوا به ريب المنون {فتربصوا إنا معكم متربصون} ، {قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون}

ولعمر الله؛ ما هي إلا نور يتلألأ، ولكن أنت ظلامه، وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها، ولكن أنت غيمه وقتامه، ومنهل عذب صاف، وأنت كدره، ومبتدأ لخير عظيم، ولكن ليس عندك خبره

فحَدّ هذه الهجرة: سفر النفس في كل مسالة من مسائل الإيمان، ومنزل من منازل القلوب، وحادثة من حوادث الأحكام؛ إلى معدن الهدى، ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدّله هذا المزكى، وإلا فعُدّه من أهل الريب والتهمات. فهذا حد هذه الهجرة

فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده، القاطن في دار مرباه ومولده، القائل: إنا على طريقة آبائنا سالكون، وإنا بحبلهم متمسكون، وأنا على آثارهم مقتدون، وما لهذه الهجرة التي كلّت عليهم، واستند في طريقة نجاحه وفلاحه إليهم، معتذرا بأن رأيهم خير من رأيه لنفسه، وأن ظنونهم وآراءهم أوثق من ظنه وحدسه، ولو فتشت عن مصدر مقصود هذه الكلمة لوجدتها صادرة عن الإخلاد إلى ارض البطالة متولدة بين الكسل وزَوْجِه الملالة

ومتى أراد العبد أن يعلم هذا فلينظر في حاله، ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلّد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها {بل الأنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره}

فسبحان الله! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها؟