لقد ظنت فرنسا لوقت طويل أن سياستها التي مارستها على الشعب الجزائري لعقد من الزمن ستقضي على هويته وأصالته ويكون تابعا لها،وعملت بكل الوسائل لتدجينه وإدماجه في دولتها ...ولكن هيهات أن يتحقق لها ذلك وفيها من الرجال كمثل " عبد الحميد بن باديس" ومن معه من علماء جمعية العلماء المسلمين الذين وقفوا منتهضين لكل تلك السياسات وراحوا يبثون روح النهضة في الأمة،ويدعونها إلى الكتاب والسنة والمحافظة على الجنس واللغة والاعتزاز بالاسلام والعروبة،والتحذير من البعداء ومن مخططهم التهجيني والدعوة الى التبصر والاتحاد والتجمع والتيقظ والحث على الاعتماد على الله وحده ثم على النفس والصادقين من أبناء أمته،فيقول: " قد بينت لك جمعيتك حقيقة الموقف وحرجه،وكشفت لك شيئا مما تعانيه أنت وما تعانيه هي من الأقرباء والبعداء، وهي تدعوك إلى التبصر والتثبت والاتحاد والتجمع والتنبه والتيقظ وتحثك على الاعتماد على الله وحده،ثم على نفسك،والصادقين من أبنائك" ،ثم راح يوضح من هؤلاء الصادقين فقال" وما الصادقون إلا الذين يحافظون بأقوالهم وأعمالهم ومواقفهم على اسلامك وعروبتك وجميع مقوماتك،يناضلون بالنفس والنفيس عن جميع حقوقك،وهم فيك اليوم ـ إن شاء الله ـ كثيرون،وسيكونون أكثر،والله أكبر" (البصائر العدد 79/20أوت 1937)،كما اعتز الشيخ عبد الحميد بالعروبة ودعا إلى نشر اللغة العربية والعمل بها،وحببها إلى قلوب أبنائها،وقدسها الشعب الجزائري إلى درجة العبادة،أنها لغة العلم والثقافة،والقرآن والحضارة الاسلامية والتاريخ،وقد حفظت لنا كياننا وربطت بيننا وبين ماضينا الزاهر،وهي التي تحررنا من ربقة الجهل وقيود الاستعمار،والشعب إذا تشبث بلغته ملك زمام أمره،وقد قيل "إذا استعبدت أمة ففي يدها مفتاح حبسها ما احتفظت بلغتها" وقد أجزم الشيخ أن الشعب الجزائري حي لا يموت بقوله:" إن الذي يعلم تاريخ الجزائر الحديث يجزم بأن هذا الشعب شعب حي لا يموت"... ثم راح يتحدث عن حالة الجزائر قبل جمعية العلماء المسلمين فيقول: " لقد كان هذا العبد ـ يقصد نفسه ـ يشاهد قبل عقد من السنين،هذا القطر قريبا من الفناء،ليست له مدارس تعلمه،وليس له رجال يدافعون عنه ويموتون عليه،بل كان في اضطراب مستمر،وياليته كان في حالة هناء....." ثم يبين كيف أن أبناء الجزائر في ذلك الوقت كانوا لا يذهبون إلى المدارس الأجنبية التي لا تقدم لهم إلا فتات العلم ولا يخرجون منها إلا جاهلين لدينهم ولغتهم وقوميتهم فيقول:" وكان أبناؤنا يومئذ لا يذهبون إلا للمدارس الأجنبية التي لا تعطيهم غالبا من العلم إلا ذلك الفتات الذي يملأ أدمغتهم بالسفاسف حتى إذا خرجوا منها خرجوا جاهلين (دينهم ولغتهم وقوميتهم) وقد ينكرونها،هذه هي الحالة التي كنا عليها في تاريخنا الحديث،وما كنا لنرضى بها،أو نبقى عليها،وقد ولدتنا أمهات مسلمات جزائريات،يأبين إلا أن نبقى كما ولدنا،وتأبى ثقافتنا إلا أن نرجع إلى ما كنا عليه"
وقد أتت جهود العلماء والجمعية أكلها،فهب الشعب الجزائري من غفلته،وراح يتمسك بمعالمه وأصوله ويلاحق ركب المتقدمين ويغترف من علم رواده العلماء ،فتشبث بالعلم والتعلم ولبس التقدم وجاهد في ذلك بكل إباء وثقة وإيمان،وقد فاجأ انبعاثه فرنسا التي كانت تظن أن لا تقوم له قائمة،وهاهو ابن باديس يسفه أحلامهم بما يقول عن الشعب الجزائري:".... الشعب الجزائري شعب مسلم،طبعه الاسلام على تعظيم العلم وحب التعلم ،واحترام المتعلمين، فلما دبت فيه الحياة،وهب النهوض،اندفع للتعلم اندفاعا أدهش قوما وحير آخرين" (البصائر/ع 136/1938).
لقد التف هذا الشعب ـ رغم قوة الأحداث والصدمات ـ حول من راح يعلمه دينه ولغته من رجال جمعية العلماء المسلمين،الذين أحيوا فيه موات القلوب،وأناروا عقله بنور العلم فازداد تمسكا بدينه ولغته،يقول العلامة عبد الحميد:" انتبه هذا الشعب العربي المسلم على صدمات الحوادث،وقوارع الزمان ومناخيس البلايا التي خرقت الجلد واللحم والعظم،وبلغت إلى شفاف القلوب وعَلِيّ صوت الدعاة بالقرآن،الذين هزت دعوتهم النفوس هزا،واحيا الله بها البلد الميت،ففتح عينيه ليرى النور،ومد يده ليأخذ بأسباب النجاة،فقدم له علماؤه المصلحون قبسا من نور الايمان الذي هو في حنايا ضلوعه لينير له الوجود،ومدوا له حبل الاسلام الذي هو مرتبط بقلبه،ليصعد في مرقى الحياة،ويطلع الى صرح المجد والسعادة في مرقى الحياة،ويطلع إلى صرح المجد والسعادة التي خلق لها الانسان من حيث أنه انسان،وناغوه بلغة الدين وتذوق معانيه".
إن هذا الكلام يوضح بلا شك أن جمعية العلماء المسلمين حاربت الاستعمار لأنه أراد طمس الهوية الجزائرية وإخراج الشعب الجزائري عن إطار الاسلام وجعله تابعا لفرنسا عقيدة ولغة وهوية...،وبعد مرور اثنان وخمسون سنة من استقلال الجزائر الأبية تطل علينا حكومتنا بقرارات أقل ما نقول عنها أنها تغريبية استئصالية تنخر في قلب الهوية والقيم ،فمن تخريب الأسرة ونشر الخمور والفساد إلى فرنسة للسان العربي الجزائري من وزيرة التربية والتعليم واللعب بمستقبل الأجيال وتخريب نفوس الناشئة أكثر مما هي مخربة(انظروا إلى مدارسنا اليوم)وتجريب نظريات أفلست في بلدها فتلفقتها الجزائر لتزيد العقول والنفوس اغترابا ، ولا نقول إلا ما قاله عبد الحميد بن باديس في نداء إلى معلمي الفرنسية الذي ذكرهم بخطورة موقف فرنسا في الأمة الجزائرية العربية المسلمة المهانة،والتعليم العربي المطارد،ودعاهم أن يكونوا للأمة لا عليها،وحذرهم من اتخاذ موقف سلبي،يقول: " أنتم ـ يارجال التربية والتعليم ـ أعلم الناس بفضل التربية والتعليم على الأمم،وقيام بنائها عليهما وأحرص الناس على تعميمهما،وتثبيت أصولهما وحياطتهما بالحرية الواسعة،وصونهما من عبث العابثين،وإذا لبعظكم،بحكم الطبع او بحكم الوظيفة منازع لا دينية في التربية والتعليم،أو منازع سياسية في لغة التعليم،فلا تنسوا أن في الأمم جانبا وجدانيا لا يمكن انتزاعه،ولا التسلط عليه،ولا بد من اعتباره عاملا أساسيا في تربيتها الخاصة،ومقوما أولا لوسائل تلك التربية،وهذا الجانب هو الدين واللغة التي تعبر عن حقائق ذلك الدين،وأنتم تعلمون كذلك أن الأمة الجزائرية أمة اسلامية الدين،عربية اللسان،يستحيل عليها أن تتخلى عن ذلك الدين،ويستحيل أن تفهم حقائق ذلك الدين إلا باللسان العربي،وأن الاسلام والعربية هما أول ما تعهدت فرنسا بحفظه،وعدم مساسه فهو من مقومات هذه الأمة ومقدساتها من أول عهد احتلالها لهذا القطر،فما لها منذ سنوات بدأت تتنكر للاسلام ولغته،وتضيق في تعليمهما الخناق؟تارة بالتشريعات الاستثنائية وتارة بالمعاملات الادارية،حتى وضعت حولها شبكة من القرارات،ووكلتها إلى تطبيق إداري جائر،لاغاية له إلا محو التعليم الاسلامي العربي من قطر خلقه الله عربيا إسلاميا"..ثم يختم النداء بما يلي:" هذه حقائق تقدمها لكم "جمعية العلماء" ومن ورائها الأمة الجزائرية،راجية منكم أن تكونوا عونا لها في مقاومة هذه القرارات" (البصائر ع/119/أفريل 1938.وكأني بالنظام الجزائري اليوم يستنسخ هذه التجربة الوسخة لاستعمار غاشم جثم على قلوب الجزائريين لعقد من الزمن وهاهواليوم يعود لكن بوجوه جزائرية وأيدي جزائرية تريد النبش في ثوابت هذه الأمة محاولة ابعاد الشعب المسلم عن مقوماته الأساسية وهي الدين الاسلامي واللغة العربية بحجة الحداثة والتطور وهي لا تعلم أو تتجاهل أنها بذلك تقتل هذا الشعب بل تمحو وجوده من على خارطة التطور والنهضة الانسانية،لأن أربعون مليون نسمة لا ولن يقبلوا الانسلاخ عن مقوماتهم وقيمهم التي هي صمام أمان لاستمرار وجودهم، ومن أراد حتفه عليه أن يعلن هذه الحرب الخاسرة بينه وبين الشعب ،لأن أمه "فرنسا" قد فعلت ذلك ووضعت حدا لوجودها على هذه الأرض الطيبة التي سقيت بدماء الشهداء وعرق العلماء من أمثال شيخنا "عبد الحميد بن ياديس" الذي أعلنها منذ أزيد من نصف قرن ونحن نعلنها معه الآن ونسير على دربه :
" شعب الجزائر مسلم""" وإلى العروبة ينتســب
من قال حاد عن أصله""" أو قال مات فقد كــذب
أو رام إدماجــا لــــه """ رام المحال من الطلب