ـ ذكرت بعض الأحاديث أنّ الله يحشر عباده يوم القيامة، مؤمنهم وكافرهم برّهم و فاجرهم على صعيد واحد ، حفاة عراة غرلا ، ثمّ يتم حسابهم على ما قدّموا من عمل في دنياهم .

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: « يحشرالناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً »قلت: يا رسول الله, الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلي بعض؟ قال: يا عائشة, الأمر أشد من أن ينظر بعضهم لبعض»
أخرجه مسلم.

عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: « تحشرون حفاة عراة غرلاً»،
فقالت امرأة: أيبصر بعضنا أو يرى بعضنا عورة بعض؟
قال: « يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه »
أخرجه الترمذي

و قد روى البخاري في صحيحه ما يشبهه

ـ لكن هل فعلا سيحشر الله عباده عراة بادية عوراتهم ، الوالد ينظر إلى عورة ابنته ، و الأم تنظر الى عورة ابنها ، و الإخوة يبصرون سوءات بعضهم بعضا ، في مثل هكذا موقف مخجل يريق ماء الوجوه الوقحة للفسقة ، ناهيك عن من خالط الحياء ذرات
وجوههم؟

ـ لقد و جدنا أنّ هذه الأحاديث باطلة المتن ، رغم صحة أسانيدها لأنّها تتصادم مع القرآن الكريم ، و كل ما خالف كتاب الله ، فهو رد و لو كان في الصحاح.

ـ سيحشر الله عباده كساة في أرض المحشر يوم القيامة ،و سنورد الأدلة من القرآن الكريم و السنّة الصحيحة التي تثبت ما ذهبنا إليه ، و الله المستعان:

الدليل الأول :

ـ جاء في محكم التنزيل ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50
من سورة ابراهيم

ـ يصوّر القرآن العظيم المشهد يوم الحشر ، و يصف حال المجرمين كيف يقيّدون بالسلاسل ، و يلبسهم تعالى ثيابا من نحاس قبل أن يدخلهم النار ، ولقد ذكر هذا القول العلامة التونسي محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير و التنوير ، حيث قال : و جعلت سرابيلهم من قطران ، لأنه شديد الحرارة ، فيؤلم الجلد الواقع هو عليه ، فهو لباسهم قبل دخول النار ابتداء بالعذاب حتى يقعوا في النار .
ـ و هذا ما يؤكده سياق الآيات المذكورة عن ما يقع للمجرمين في أرض المحشر .

ـ فإن كان البرّ الرحيم قد ستر عورات المجرمين ، و لم يعرّيهم و يجرّدهم من ثيابهم في ساح المحشر ، فهو بستر عباده الصالحين أولى .


الدليل الثاني :

ـ قال تعالى ( ولله العزة ولرسوله و للمومنين )المنافقون الآية8 وعزَّ الشَّخصُ في لغة العرب قوِي وبرئ من الذُّلّ أي صَارَ عَزِيزاً و عكسه ذلَّ ،إذا كان الله سبحانه قد قرر بأنّ البراءة من الإذلال ستكون من نصيب عباده المومنين ، و أنهم أعزة في الحياة الدنيا و في الآخرة ، فكيف يتفق هذا مع ما جاء في الأحاديث المعطوبة بأنه سيعريهم و يحشرهم عراة لا ثياب تستر عوراتهم ؟ و أي شيء أكبر إذلالا و قهرا من تعرية شخص أو جماعة أمام من يحبهم و يبغضهم .

الدليل الثالث :

ـ قال تعالى ( إنّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودّا ) مريم الآية 96 قال مجاهد في تفسيرها ، معناها يحبّهم و يحبّبهم إلى خلقه . و محبته لهم لا تنقطع في الدارين على حد سواء ، و المحبّة تقتضي الإكرام و التبجيل من المحبّ لمحبوبه لا الإهانة و الإحتقار ، و التعرية وإبداء العورات لا يقوم بها الا العدو المتسلّط إذا تمكّن من أعدائه ، ليشفي غليله منهم بمثل هكذا عذاب ، كما فعلت أمريكا بأحرار العراق في غوانتنامو ، و تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

الدليل الرابع :

ـ قال سبحانه ( ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ) يونس الآية 62 ، لقد تردد ذكر أشباه هذه الآية كثيرا في كلام الله عزّ و جلّ ، ليؤكد عهده لأهل الإيمان بالأمان من الخوف و الفزع و أنواع القلق و شتى ألوان الأحزان ، و مبدأ ذلك من ساعة الاحتضار ، حيث تأتيهم البشائر و رسائل الطمأنينة و عهود السلام من ربّهم في قوله تعالى (إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون )فصلت الآية 30 ، فالمرء إذا عرّي عنوة في ساعة المساءلة الكبرى ، في مثل يوم القيامة ، فَقدَ سلام نفسه و امتلكته الأحزان و اعترته المخاوف على أشدّها ، و هذا ما لا يتّفق مع وعد الله عقلا و نقلا .

الدليل الخامس :

ـ فقد روى أبو داود (4012) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ) وصححه الألباني في صحيح الجامع

ـ انظر إلى هذا الحديث كيف يصف الله عزّ وجلّ بالحياء، رغم أنه المتحكم في خلقه القيوم عليهم ، و أمرهم بالحياء و جعله من شعب الإيمان به ، فكيف الحييّ يكشف عورات عباده دون الحاجة لذلك ؟ كما اتّصف بالستّير ، و أمر بالستر و عدم المجاهرة بالذنوب ،و أوجب على الخلق ستر السوءات و تغطية العورات ، لفحش منظرها و، ليتمايزوا عن البهائم التي لا تبالي بإبدائها.

ـ فهل يتخلى ربنا تعالى عن أجمل صفاته ، الحييّ و الستير ، و يعرّي خلقه دون موجب لذلك ، و يتناقض مع أوامره ويتنكر لصفاته ؟ حاشى لله أن يفعل ذلك و يحشر عباده عراة في صورة نكراء و منظر مخزي ، و لن نسلّم لمن يريد أن يشوّه صورة الجليل بحديث منكر المتن أخطأ أحد رواته أو توهّم أو ساء الحفظ ، وحاشى لرسولنا أن يقول هذا في حقّ الله ، أو أن يتناقض حديثه ( و ما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى ).

الدليل السادس :

ـ وجاء في الحديث ،أنّ الإنسان يُبعث في الثياب التي مات فيها ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ ، دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ ، فَلَبِسَهَا ثُمَّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ الْمَيِّتَ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا ) رواه أبو داود ( 3114 ) وصححه الألباني في السلسة الصحيحة 1671

ـ هذا الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه ، هو الحق الذي يتطابق مع القرآن كلام الله عزّ وجلّ و لا يضاده ، و يتوافق مع ما اتّصف به تعالى من حياء و ستر .

الحمد لله الستّير الذي سيستر عوراتنا في أرض المحشر كما سترها في الحياة الدنيا بفضله و رحمته لأنه الرحمان الرّحيم .