حجية أحاديث الآحاد
د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفة القيم الاسلاميه بجامعه الخرطوم
sabri.m.khalil@hotmail.com
تمهيد: يتصل حديث الآحاد بتقسيم السنة من حيث إفراد الراوي ومشاركة غيره (عدد الرواه ) ، حيث تقسم إلى : أولا: الأحاديث المتواترة: وهى التي رواه جماعة عن جماعة مثلهم يستحيل في كل طبقة تواطئهم على الكذب على الرسول" صلى الله عليه وسلم" ، ثانيا : أحاديث الآحـــاد : وهى ما رواه عن الرسول"صلى الله عليه وسلم" عدد لا يبلغ حد التواتر.
حجية أحاديث الآحاد عند علماء أهل السنة :
أولا : إجماع أهل السنة على إثبات حجية أحاديث الآحاد : اجمع علماء أهل السنة على أثبات حجية أحاديث الآحاد ، والمراد بحجيتها كونها ملزمه ، يقول ابن بطال ( انعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد )( فتح الباري: 13/321)، ويقول الخطيب البغدادي (وعلى العمل بخبر الواحد كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ولا اعتراض عليه، فثبت أن من دين جميعهم وجوبه، إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه ) (الكفاية : ص 72.)، ويقول الحافظ ابن حجر (المراد بالإجازة: جواز العمل به والقول بأنه حجة، وقصد بالترجمة الرد على من يقول: إن خبر الواحد لا يحتج به إلاَّ إذا رواه أكثر من شخص واحد يصير كالشهادة ويلزم منه الرد على من شرط أربعة أو أكثر)( فتح الباري : 13/233)..
ثانيا: مذهبي أهل السنة في مدى إيجاب الآحاد العلم والعمل : غير أن علماء أهل السنة بعد إجماعهم على إثبات حجية أحاديث الآحاد، افترقوا حول مدى إيجابها العلم و العمل إلى مذهبين:
المذهب الأول : إيجاب العلم والعمل: المذهب الأول لعلماء أهل السنة يرى أن أحاديث الآحاد توجب العلم والعمل معا، اى أنها ملزمه في العقائد والأحكام : يقول ابن حزم (قال أبو سليمان، والحسين بن علي الكرابيسي ، والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم: إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل معاً وبهذا نقول )، ويقول ابن عبد البر (وكلهم يرون خبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وحكماً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة ولهم في الأحكام ما ذكرناه )(التمهيد : 1/34)، ويقول ابن دحية ( وعلى قبول خبر الواحد الصحابة والتابعون وفقهاء المسلمين وجماعة أهل السنة، يؤمنون بخبر الواحد ويدينون به في الاعتقاد)( الابتهاج في أحاديث المنهاج : ص 78..) .
المذهب الثاني: إيجاب العمل دون العلم : أما المذهب الثاني لعلماء أهل السنة فيرى أن أحاديث الآحاد أنها توجب العمل دون العلم ، اى أنها ملزمه في الإحكام دون العقائد: يقول أبو منصور عبد القادر البغدادي (وأخبار الآحاد متى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل ، كانت موجبة العمل بها دون العلم ) (أصول الدين: ص12 ) ، ويقول ابن عبد البر ( اختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد هل يوجب العلم والعمل جميعا أم يوجب العمل دون العلم ؟والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم ، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر ، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعا ولا خلاف فيه ، وقال قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر : إنه يوجب العلم الظاهر والعمل جميعا ، منهم الحسين الكرابيسي وغيره ، وذكر ابن خويز منداد أن هذا القول يخرج على مذهب مالك . قال أبو عمر : الذي نقول به إنه يوجب العمل دون العلم كشهادة الشاهدين والأربعة سواء ، وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر ) (التمهيد: 1/7) ، ويقول البيهقي ( ولهذا الوجه من الاحتمال ترك أهل النظر من أصحابنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع ، واشتغلوا بتأويله ) (الأسماء والصفات: ص357 )، ويقول الإمام النووي ويقول الباجي ( وأما خبر الآحاد فما قصر عن التواتر وذلك لا يقع به العلم وإنما يغلب على ظن السامع له صحته لثقة المخبر به لأن المخبر وإن كان ثقة يجوز عليه الغلط والسهو كالشاهد وقال محمد بن خويز منداد : يقع العلم بخبر الواحد والأول عليه جميع الفقهاء ) (الإشارة: 234 ) ، ويقول إمام الحرمين ( والآحاد وهو مقابل المتواتر ، وهو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم ، لاحتمال الخطأ فيه ) (الورقات: 184).
نفى إيجاب العلم ليس مطلق (الآحاد يفيد العلم بالقرائن ) : لكن هذا المذهب لا ينفى إيجاب أحاديث الآحاد للعلم مطلقا ، بل ينفى أنها توجب العلم بدون قرائن، ويرى أنها تفيد العلم لكن بقرائن ، ممثله في ما وافقها من القران والأحاديث المتوترة ، يقول ابن فورك في شرح النخبة (.. وقد يقع في أخبار الآحاد العلم النظري ولكن بالقرائن ") ، و يقول المناوى ( ذهب الإمامان والغزالي والآمدى وابن الحاجب والبيضاوى إلى أن خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة خلافاً لمن أبى ذلك وهم الجمهور ؛ فقالوا: لا يفيد (العلم) مطلقًا.وقال التاج السبكى في شرح المختصر: وهو الحق )( اليواقيت للمناوى شرح شرح النخبة: "1 / 176 ـ 179").
ثالثا : مذهبي أهل السنة في قطعيه أو ظنيه ورود الآحاد : كما افترق علماء أهل السنة حول قطعيه أو ظنيه ورود أحاديث الآحاد إلى مذهبين :
الآحاد قطعيه الورود : المذهب الأول يرى أن أحاديث الآحاد قطعيه الورود، يقول المناوى (... فإن الناس اختلفوا أن الأمة إذا عملت بحديث وأجمعوا على العمل به ، هل يفيد القطع أو الظن ؟ ومذهب أهل السنة أنه يفيد الظن ما لم يتواتر ) ( اليواقيت والدرر: 1 / 187 ـ 188).
الآحاد ظنيه الورود: أما المذهب الثاني فيرى أن أحاديث الآحاد ظنيه الورود : يقول الإمام النووي ( وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر سواء كان الراوي له واحدا أو أكثر واختلف في حكمه ، والذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول ، أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد العلم ... ) (شرح صحيح مسلم : ج1ص131 ) ، ويقول الإمام الكراماستى (وخبر الواحد لا يوجب علم اليقين ولا الطمأنينة بل يوجب الظن )( الوجيز في أصول الفقه: 52 ـ المرصد السادس في السنة)، ويقول الإمام الرازى ( إن خبر الواحد إما أن يكون مشتملاً على مسائل الأصول وهذا باطل، لأن تلك المطالب يجب أن تكون يقينية وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن )( المعالم في أصول الفقه: 47 ـ الباب الثامن في الأخبار: المسألة الرابعة) ، ويقول الذهبي ( وفى ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقى عن درجة الظن إلى درجة العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم )( تذكرة الحفاظ: 1 / 6 ـ ت: 2 عمر بن الخطاب)، ويقول النووى(...وخالفه المحققون والأكثرون فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر )( التقريب: (11،18) ، ويقول الشوكانى ( إن الإجماع إذا حصل له من الصفات ما ليس للآحاد، فلم يجز أن يجعل حكم الآحاد كحكم الاجتماع، فإن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط والكذب فإذا انتهى المخبرون إلى حد التواتر امتنع عليهم الكذب والغلط )( منهاج الاعتدال: 4/237 قديم ـ 8/357 حديث).
غير أن هذا المذهب لا يرتب على القول بان أحاديث الآحاد ظنيه الورود نفى حجيتها ، بل اعتبار أنها ادني في درجه الحجية من الأحاديث المتواترة لأنها قطعيه الورود.
حجية أحاديث الآحاد في الفكر الاسلامى المعاصر: أما في الفكر الاسلامى المعاصر فان هناك العديد من المذاهب في حجية أحاديث الآحاد، ومن هذه المذاهب :
مذهب الإثبات المطلق : وهو المذهب الذي يثبت حجية أحاديث الآحاد ، وهو هنا يتسق مع إجماع علماء أهل السنة على إثبات حجيتها . لكن هذا المذهب يتجاوز هذا الإثبات لحجية أحاديث الآحاد ، إلى المساواة بين أحاديث الآحاد و الأحاديث المتوترة في درجه الحجية (الإلزام) ... وهو ما يتعارض مع المذهب الراجح لعلماء أهل السنة في كون أحاديث الآحاد ظنيه الورود ، وبالتالي فهي ادني في درجه الحجية من الأحاديث المتواترة لأنها قطعيه الورود . فضلا عن إلغائه لمبرر تقسيم السنة إلى متواترة وآحاد.
مذهب النفي المطلق : وهذا المذهب السابق هو رد فعل على مذهب آخر، ينفى حجية أحاديث الآحاد مطلقا ، اى ينفى كل دلالات أحاديث الآحاد، وهو ما يتناقض مع إجماع علماء أهل السنة على أثبات حجية أحاديث الآحاد، مع اختلافهم في مجال حجيتها ( هل هي حجه في العلم والعمل ام حجه في العمل فقط ) ، ودرجه حجيتها (هل هي مساوية للأحاديث المتواترة في درجه الحجية أم أنها ادني منها)، كما أن هذا المذهب يرتب على إقرار المذهب الراجح لعلماء أهل السنة ، والقائم على أن أحاديث الآحاد ظنيه الورود إنكار حجيتها ، بينما لم يرتب هذا المذهب هذه النتيجة على هذا الإقرار بظنية ورودها، بل رتب عليه نتيجة أخرى ، هي كونها ادني في درجه الحجية من الأحاديث المتواترة ، دون إنكار حجيتها..
ويندرج تحت إطار هذا المذهب مذهب النفي المطلق للأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد، بحجه ان هناك مذهب لعلماء أهل السنة، يرى أن أحاديث الآحاد توجب العمل دون العلم، لكن هذا المذهب يتجاهل حقيقة أن مذهب علماء أهل السنة لا ينفى إيجاب أحاديث الآحاد للعلم مطلقا ، بل ينفى أنها توجب العلم بدون قرائن، ويرى أنها تفيد العلم لكن بقرائن ، ممثله في ما وافقها من القران والأحاديث المتوترة ، يقول ابن فورك في شرح النخبة (.. وقد يقع في أخبار الآحاد العلم النظري ولكن بالقرائن ").
مذهب الإثبات المقيد: وهو المذهب الذي يقوم على الاتى :
أولا : إثبات حجية الآحاد: إثبات حجية أحاديث الآحاد ، اى إثبات كونها ملزمه ، اتساقا مع إجماع علماء أهل السنة على إثباتها .
ثانيا: إيجاب الآحاد المقيد للعلم والعمل: أن أحاديث الآحاد توجب العلم والعمل معا ، اى كونها ملزمه في العقائد والأحكام معا ، اتساقا مع المذهب الأول من مذاهب علماء أهل السنة ، مع تقييد هذا الإيجاب الشامل بكونها مصدر قائم بغيره " حجه بغيرها" في أصول العقائد والأحكام، وكونها مصدر قائم بذاته "حجه بذاتها " في فروع العقائد والاحكام..
ثالثا: إقرار ظنيه ورود الآحاد لا ينفى حجيتها ، بل يقيد درجه هذه الحجية: أن أحاديث الآحاد ظنيه الورود، اتساقا مع المذهب الراجح لعلماء أهل السنة ، غير أن هذا الإقرار بظنية ورودها لا ينفى حجيتها ، بل يقيد درجه هذه الحجية كالاتى :
ا / أحاديث الآحاد مصدر قائم بغيره" حجه بغيرها" لأصول الدين ، وقائم بذاته" حجه بذاتها" لفروع الدين: ولعلماء أهل السنة مذهبين في الاجابه على السؤال : هل أحاديث الآحاد يمكن أن تكون مصدرا لأصول الدين ، المذهب الأول يرد بالإيجاب ، لأنه يرى أنها قطعيه الورود ، أما المذهب الثاني فيجيب بالنفي ، باعتبار أنها ظنيه الورود ،وبالتالي فهي مصدر لفروع الدين دون أصوله ، يقول الاسنوى ( أن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن ، والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع ، دون العلمية كقواعد أصول الدين ) ، ويقول ابن تيمية (إن هذا من أخبار الآحاد فكيف يثبت به أصل الدين ؟ )( منهاج الاعتدال (2/133 قديم ـ 4 / 95 حديث ـ كلام الرافضى على محمد بن الحسن)، ويقول الإمام ابن قدامة ( إن جميع ما رووه وذكروه هو أخبار آحاد، ولا يجوز قبول ذلك فيما طريقه العلم ؛ لأن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط، وإنما يعمل بأخبار الآحاد فى فروع الدين، وما يصح أن يتبع العمل به غالب الظن، فأما ما عداه فإن قبوله فيه لا يصح، وذلك يبطل تعلقهم بهذه الأخبار حتى ولو كانت صحيحة السند وسليمة من الطعن في الرواة )، غير أن كلا المذهبين لم يميزا- في إجابتهما على السؤال - بين المصدر القائم بذاته والمصدر القائم بغيره ،اى لم يميزا بين كون أحاديث الآحاد حجه بذاتها أو حجه بغيرها، وبوضع طبيعة المصدر في الاعتبار ، نصل إلى مذهب أخر يقوم على أن أحاديث الآحاد مصدر قائم بغيره" حجه بغيرها" لأصول الدين ، وقائم بذاته" حجه بذاتها" لفروع الدين ..
ب/ إثبات دلالات الآحاد التي لا تتناقض مع دلالات النصوص القطعية : انه يجب إثبات الدلالات التي تفيدها أحاديث الآحاد ، والتي لا تتناقض مع دلالات النصوص اليقينية الورود (ممثله في القران الكريم والأحاديث المتواترة )، يقول الإمام النووى ( ومتى خالف خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعا وجب ترك ظاهره ) (المجموع شرح المهذب: 4/342 )، ويقول عبد القادر الدومى ( والذي أراه أنه لا يفهم من كلام الإمام "أحمد بن حنبل" إلا التخصيص بأخبار الرؤية، فكأنه يقول: إن أخبارها وإن لم تبلغ حد التواتر لكنها احتفت بقرائن جعلتها بحيث يحصل العلم بها، وتلك القرائن هي ظواهر الآيات القرآنية المثبتة لها، فإسناد القول الثاني إلى الإمام من غير تقييد فيه نظر. وكذلك ما نسبه إليه ابن الحاجب والواسطى وغيرهما من أنه قال " أى الإمام أحمد": يحصل العلم فى كل وقت بخبر كل عدل وإن لم يكن ثم قرينه فإنه غير صحيح أصلاً)( نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر : (1/261).
ج / شروط الأخذ بالآحاد : وإذا كان الأخذ بالأحاديث المتواترة مطلق ، فان الأخذ بأحاديث الآحاد له شروط ، أفاض في الحديث عنها الأصوليون ، فضلا عن ائمه المذاهب الاربعه ، فقد اشترط الحنفية للأخذ بحديث الآحاد : أن لا يخالف الصحابي روايته بعمله، وأن لا يخالف الحديث نص القران ظاهرا ، وان لا يكون موضوع خبر الآحاد مما تعم به البلوى ، و أن لا يكون الخبر مخالفا للأصول الشرعية والقياس إذا كان الراوي غير فقيه، و أن لا يخالف الخبر عمل كبار الصحابة. واشترط المالكية : أن لا يكون الخبر مخالفا لعمل أهل المدينة، و أن لا يكون الخبر مخالفا للقياس والأصول القطعية. و اشترط الشافعية شروط تتصل بصحة السند والاتصال منها: ان يكون الراوي ثقة في دينه صادقا في حديثه، و أن يكون فاهما واعيا يستطيع أداء الحديث بنصه بحروفه كما سمعه أو بألفاظ مساوية دون أي إخلال بالمعنى، و أن يكون ضابطا لما يرويه، و آن لا يكون الحديث مخالفا لحديث أهل العلم بالحديث إن شاركهم في موضوعه.أما الحنابلة فاشترطوا ان لا يكون في الخبر متهم أو كذاب.