قالوا: إنه لا يجوز نسخ جميع القرآن، إجماعا.
وقالوا: إنه يجوز نسخ جميع التكاليف، حتى وجوب معرفة الله.
وهل بين الكلامين تعارض ؟
وإن كان فما وجه الجمع بينهما.



قبْلَ أنْ نشْـرَعَ في الإجابة لا بُدَّ من تنبيه السـادة القُرّاء أوّلاً على أمْرٍ خطيرٍ لا شَكّ فيه و لا يُنكِرُهُ مُسْـلِم ، لكِنْ عند وُقُوع نظر القارِئ على المَسْـألة لأوّل وهلة ، قد يُلْقِي الشيطانُ في قَلبهِ ، وَ لَوْ لِلَحْظةٍ ، أنَّ هذا النسخ المسـؤُول عنْهُ ما زال جائِزاً الآن ، أي بعد تمام خاتمة الرِسـالات الإِلهِيّة و وفاة سَـيِّدِ سـاداتِ خيارِ أخيارِ البرِيّة ، عليه أفضلُ الصلاة و السـلام و أزكى التحِيّة ، نعنِي بعدَ انقِطاع الوحْيِ الإِلهِيّ النبَوِيّ عن أهل دارِ التكلِيف .. فنُذَكِّرُ بِإِنَّهُ لا وَحْيَ و لا تشْـريعَ بِجديدٍ و لا نَسْـخَ بَعْدَ سَـيّدِنا مُحَمَّدٍ رَسُـولِ الله خاتَمِ النبِيّين وَ سَـيّدِ المُرسَـلِين وَ إِمامِ المُتَّقِين صلّى اللهُ عليه و سَـلَّم .. هذا ما لزِمَ أوّلاً .
- أمّا المسـألة المذْكورة فأرى دائِماً أنَّهُ من الأفضلِ (عند السُـؤال عن وجهِ الجمعِ بين قَولَيْنِ أوْ أقوالٍ من أقوالِ السادة العلماءِ أهلِ الحقّ ، إِنْ كان الجمعُ مُمكِناً أو عن الراجِحِ منها إِإِن امتنع الجمعُ و تعَيَّنَ الترجيح) ، أنْ تُنقَلَ العِباراتُ المَسْؤُولُ عنها بِنَصُوًصِها حرفِيّاً و لو كانت فقراتٍ طويلَةً ، من أجل أمانة العلم في النقلِ و توثِيق نِسْـبةِ كُلِّ قولٍ إِلى صاحِبِهِ ، وَ مِنْ أجْلِ تدقيقِ النَظر في أصلِ العبارات و التحقيقِ في ظواهِر الألفاظِ وَ وُجوهِ المعانِي وَ الإِحتمالات و التأكُّدِ من المُراد ...
و نقُول الآنَ بإِيجازٍ يكُونُ بِمثابةِ التمهيد لتوضيح الجواب مِنْ سـادتِنا الفَضَلاءِ و كَشْفِ الإِلتباس :
- العبارة الأولى المذكورة هنا ، لو جاءَت بدون لفظ : "جميع" مُضافةً إِلى القُرْآن ، أيْ لو كانت :" لا يَجُوزُ نَسْـخُ القُرْآنِ إِجماعاً " لَكان لمعناها إحتمالان :
1- الأوّلُ إِنكارُ صِحّةِ نَسْـخِ شَـيْءٍ من القُرآنِ الكرِيم في عَهْدِ النُبُوّةِ الكريمةِ و بقاءِ مُدّةِ الوحْيِ ، و هذا الإِحتمالُ باطِلٌ لِجوازِ النَسْخِ في زمانِ الوحْيِ و ثُبُوتِ وُقُوعِهِ عند أهل الحقّ ، بوَحْيِ اللهِ تعالى إِلى النبِيِّ ضلّى اللهُ عليه و سَـلّم ، بِلا خِلاف .
2- وَ الإحتمالُ الثانِي أنَّ المُراد منها أنْ الرِسـالةَ المُحمَّدِيّة باقِيَةٌ أبداً لا يُقبَلُ عند اللهِ اتّباعُ غيْرِها من الرِسـالات الماضِية ( و إِنْ كانت حقّاً و قَد كانت مقبُولةً في زمانِها ، وَ لو فُرِضَ أيضاً أنْها بَقِيَت غيَرَ مُحرَّفةٍ) .. وَ أنَّهُ لا يجوزُ أنْ يُلْغِيَ شَـيْءٌ شَـرِيعَةَ مُحَمَّدٍ إِطلاقاً وَ لا شَـيْئاً مِنْها ، (أي أنْ يُلغِيَ القُرآنَ الكرِيمَ أو السُـنّةَ الشرِيفةَ أوِ المُجمعَ عليه من مفهومِهِما و شُـرُوطِهِ ، و لا بَعضَ ذلك) ، وَ هذا المعنى حَقٌّ لا يجُوزُ خِلافُهُ .
أمّا مع إِضافة لفظة :" جميع " إِلى القُرآنِ الكرِيم أيْ قَول :" لا يجوز نسخ جميع القرآن ، إجماعا . " ، فَإِنَّ العِبارة بِإِيرادِها هكذا مُفْرَدَةً عن سِـياق الأبحاثِ التي ورَدَتْ خِلالَها ، قَد تُوهِمُ بعض السـامِعِينَ اليَوم أنَّهُ يجُوزُ نَسْـخُ بعضِ القُرآنِ الآن ، أيْ بَعدَ وفاةِ خاتم النبِيّينَ الحبِيبِ المُصطفى سَيّدِنا و مولانا مُحَمَّدٍ رَسـُولِ الله صلّى اللهُ عليه و سَـلّم ، و انقطاعِ الوَحْيِ بِتمامِ رِسـالتِهِ وَ لحاقه بالرفيق الأعلى عليه الصلاة و السلام ، لا نَسْـخُ جميعِهِ ... فَهذا المعنى لا شَكَّ بأنَّهُ باطِلٌ ، بل لا شَكَّ بأنَّ القَوْلَ بِجوازِ نسخِ شَيْءٍ من القُرْآنِ بعدَ النَبِيِّ صلّى اللهُ عليه و سَـلّم أوْ ادِّعاءَ صِحّةِ ذلكَ كُفْرٌ وَ رِدّةٌ وَ زَندقَةٌ صرِيحةٌ مفضُوحةٌ ، ظاهِرَةٌ غيرُ باطِنة ، بادِيَةُ للجميعِ غيْرُ خافِيَةٍ على العوامِّ أو الخواصّ على السَـواء .
وَ قَبْلَ الإِنتقالِ إِلى الكلامِ على العبارة الثانِية ثُمَّ عَنْ وجهِ الجمعِ المُحتَمَل أوْ وُجُوهِ احتمالِات الجمع و امتناعِهِ ، بَقِيَ أنْ نُقَرِّرَ أنَّ العبارة الآولى المَسْـؤُول عنها هنا ، وَ بِقَرِينَةِ أنَّ السائِل عنها هو مُسْـلِمٌ و مِنْ طُلاّبِ علومِ الفِقْهِ وَ أُصُولِهِ المُتعَلِّمينَ بلْ و الباحِثِينَ في عُلُومِهما ، فَيَظْهَرُ أنَّ أصلَها جاءَ في إِعلانِ إِجماعِ الأُصُولِيّين ، أيْ عُلماءِ الأُصُول ، على أنَّهُ يَجُوزُ في حياةِ النبِيِّ صلّى اللهُ عليه و سَـلّم ، نَسْـخُ بعضِ آياتِ الأحكامِ ، أو نَسْخُ أحكامِ بعضِها مع الإِبْقاءِ على نَصِّها في المتلُوِّ ، و لا يَجُوزُ نَسْـخُ جمِيعِهِ لإِسْــتِلْزامِ ذلك تعَطُّلَ الدِينِ و انقطاعَ صلاحِيّة الرِسـالةِ و إِمكان التكلِيفِ بِها ، و هذا خِلافُ الحِكْمةِ من الإِرسـالِ و التكلِيفِ و الحُكْمِ بتأبِيدِ خاتمة الرِسـالات ، مع الإِخبار بِذلكَ في نُصُوصٍ كثِيرَةٍ ، فإِنَّ الإِخبارَ عمّا لَمْ يَزَلْ معلُوماً في العِلْمِ الأزَلِيِّ وَ أنَّهُ مُرادٌ مَحكُومٌ بِقَضاءِهِ المُحَتَّمِ وَ أَمْرِهِ المُبْرَمِ ، لا يَنالُهُ إِلْغاءٌ وَ لا يأتِي عليه فَسْخٌ و لا يُتَصَوَّرُ فيه نَسْـخٌ إِطلاقاً .. إِنتهى الكلام على كشفِ بعضِ المُلابَساتِ عن العبارة الأُولى . وَ لعَلَّهُ بقِيَ بعضُ احتِمالات ...
- أمّا العبارة الثانِية مِنْ قوْلِ مَنْ قال: " أنَّهُ يجوز نسخ جميع التكاليف ، حتى إِيجابُ معرفةِ اللهِ تعالى ..." ،
و سُـؤال أنَّهُ : "هَلْ بينها و بين العبارة الأُولى تعارض حتّى أنَّهُ لا يُمكِنُ الجمْعُ بينَهُما فَيَلْزَمَ إِبطالُ إِحداهُما ؟؟ " .. وَ قد بَيّنّا أنَّ المقصُودَ من الأُولَى حقٌّ مُجمَعُ عليه .. إِذَنْ فما وَجْهُ احتِمالِ الجمعِ بينَها و بين هذه الثانِية ، بناءً على اعتمادِ ذلك المقصود ؟ وَ على أيّ الوجُوهِ من معانِيها يَسْتَحيلُ الجمْع ؟. ؟!.
فالجواب ، بعدَ تكرِيرِ العِـتابِ عَلى نَقْلِ كِـلْتـَيِ العِبارَتَـيْنِ مَفصُولَتين عن سِـياقاتِ الأبحاثِ التي وَرَدتَا فيها ، أنَّهُ يَسْـتَحِيلُ عادةً أنْ يُصَحِّحَ عاقِلٌ - ما دامَ في عَقْلِهِ - جوازَ نَسْـخِ التكلِيفِ مُطلَقاً بَعْدَ إِثباتِ تأبِيدِ الشـرِيعَةِ المُحَمّدِيّة أيْ الحُكْمِ بلُزومِ إِذْعانِ جميعِ المُكَلّفِينَ لِرِسـالَةِ سَـيِّدِ سـاداتِ العرَبِ و العجَم خاتَمِ النبِيّينَ سَـيِّدِنا و مولانا مُحَمّدِ بنِ عبْدِ اللهِ بن عبْدِ المُطّلِبِ الهاشِمِيّ القُرَشِيّ العرَبِيّ صلّى اللهُ عليه وَ سَـلّم ، وَ اسْـتِحالَةُ نَسْخِ التكلِيفِ هذه ، إِسْـتِحالَةٌ شَـرْعِيّة لِوُرُودِ القَطعِيّاتِ المُسَـلَّمَةِ بامتناعِ ذلك ..
( و المُكَلَّفُ هُوَ العاقِلُ البالِغُ الذي بلَغَتْهُ دعوَةُ الحقّ) .
أمّا بَحْثُهُم في إِمكانِ نَسْـخِ جميع التكالِيفِ حتّى إِيجابُ التوحيد و الإِيمان ، فهذا مَبْنِيٌّ على ما لَوْ لَمْ يَرِدْ تنجِيزٌ لِلحُكْمِ بِتأبِيدِ الشريعةِ المُحَمَّدِيّة وَ على ما لَوْ لَمْ يَسْـبِـقْ في العِلْمِ الإِلهِيِّ الأزَلِيِّ و الإِرادةِ الإِلهِيّةِ الأزَلِيّةِ العلِيّةِ تَحَتُّمُ وُقُوعِ ذلِكَ وَإِبْرامُ إِمْضاءِ الحُكِمِ بِهِ ، من أوّلِ زمان البِعْثةِ المُباركة إِلى قِيامِ السـاعَةِ ، و لا بِإِرْسـالِ أحَدٍ مِنْ سـائِرِ الَأنبِياءِ الكِرام قَبْلَ سَيّدِنا مُحَمَّدٍ خاتَمِ النبِيّين وَ إِمامِ المُرسَـلين علَيْهِ الصلاة و السـلامُ و عليهم أجمعين . ( أيْ كان يجُوزُ في العقْلِ ، لأنَّهُ مِنْ المُمكِناتِ جائِزةِ الطرفَيْنِ ، و لكِنْ وَرَد التشْــرِيعُ بِمَنْعِهِ وَ وقَع التخصِيصُ بِمَنْعِ وُقُوعِهِ ، وَ ثبَتَ الإِخبارُ الإِلهِيُّ بذلك ، فاستحالَ أبَداً ) .
فالمسألة مُفترضةٌ تَبَعاً لِتَقرِيرِ أصلَيْنِ من أُصولِ أهْلِ الحَقِّ أهلِ السُـنّةِ ، أوَّلُهُما أنَّهُ لا يَجِبُ على اللهِ تعالى شَيْءٌ : لا بِعثَةُ رُسُـلٍ وَ لا تَكلِيفٌ بِشَرْعٍ على لِسـانِهِم و لا مُراعاةُ الأصْلَحِ لِأحَدٍ مِنْ عَبِيدِهِ ، بَلْ كُلُّ ذلكَ مَحْضُ فَضْلٍ إِلهِيٍّ إختِيارِيٍّ سَــبَق في العِلْمِ الإِلهِيِّ الأزَلِيِّ وَ مَضَتْ بِهِ المَشِـيئَةُ الربّانِيَّةُ الأزَلِيّة ...
وَ الأصْلُ الثانِي ، و هو الراجِحُ عند جُمهورِ أهلِ السُنّةِ ، أنَّهُ لا مُطالَبَةَ على العِبادِ قبْلَ بِعثَةِ الرُسُـلِ وَمجِيئِهِم بالتكلِيفِ ، لا بالإِيمانِ وَ لا بالأعمال ، و بالتالِي لا حِسـابَ في الآخِرَةِ على مَنْ لَمْ تبلُغْهُ دعْوَةُ نبِيٍّ ، وَ هذا أصلٌ ثالِثٌ مُتَرَتِّبٌ على الأصلَيْنِ السـابِقَيْنِ ..
وَ ذُكِرَ عنْ بعضِ الأئِمَّةِ إِيجابُ الإِيمانِ بالعقْلِ و النظَرِ في حقِّ البالِغِ العاقِلِ ، وَ ضُعِّفَ هذا أمامَ قولِ الجُمهُورِ و أدِلَّتِهِم من الكتابِ و السُنّةِ و المُسْـتفِيضِ بينَ سَـلَفِ الأُمّة ...
إِذَنْ يَظْهَرُ أنَّ القَوْلَةُ الثانِيةَ (بإِمكانِ جوازِ نسْـخِ التكلِيف) هِيَ في الأصْلِ من بابِ بيان الجائِزاتِ العقْلِيّةِ و لكِنْ صارَتْ مَحكُوماً بأنَّها مُسْتَحِيلاتِ الوُقُوعِ من أجْلِ المَوانِعِ الإِلهِيّةِ الإِختِيارِيّة ، بِالأخبارِ القَطعِيّة و التنجِيزاتِ الشَـرْعِيّة الصادِرة عنْ سَـبْقِ التخصيص بالإِرادةِ الربّانِيّةِ العَـلِـيَّة ... فكَمْ مِنْ مُمكِنٍ عَقلِيٍّ يَـمْتنِعُ وُقُوعُهُ وَ يَصِيرُ الحُكْمُ باسْـتِحالَتِهِ لازِماً لا مِنْ حَيْثُ ذاتُهُ بَلْ مِنْ أجْلِ القَطعِيّاتِ الشَـرْعِيّة ...
و اللهُ تعالى أعلَمُ وَ أحكَمُ .
جزى اللهُ عنّا سَـيِّدَنا مُحَمَّداً صلّى اللهُ علَيْهِ وَ سَـلَّمَ ما هُوَ أهْلُهُ . وَ الحمْدُ لِلهِ رَبِّ العالَمِين .