قال الله تعالى : * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ *  Bsm-allah3

قال الله تعالى : * قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن
نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء
أَنشَرَهُ * (سورة عبس الآيات : 17 - 22) ..

هذه الآيات إختصرت مراحل حياة الإنسان وفيها من البلاغة والبيان

ما يعجز المرء عن الإحاطة بمعانيه وأسراره :

ففي قوله تعالى : * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * جاء تعريف (السّبيل)

بالألف واللام دون الإِضافة للإِشعار بأنّه سبيل عامٌّ فيدخل فيه :

1 – تيسير خروج الجنين من رحم أمّه فيكون المعنى : " ثمّ سهّل

عليه خروجه من بطن أمّه " لأنّ الجنين في بطن أمّه يكون على

هيئة الجالس ووجهه من جهة العمود الفقري لأمّه * فِي قَرَارٍ

مَكِينٍ * فهو يعيش في راحة إلى أن تأتي ساعة الخروج فينقلب

حينها ليكون رأسه إلى أسفل ويتّسع عنق رحم الأمّ ويرتفع

تدريجياً ويفرز جسمها هرمونات تجعل عظام الحوض وعضلاته

ترتخي كلّ ذلك لكي يتيسّر لهذا المخلوق سبيله للخروج إلى

الدُّنيا ...

2 – قوله تعالى : * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * يحتمل كذلك أن يكون

المعنى : بعد خروج الولد من بطن أمّه وهو صغير لا حول له

ولا قوة فقد يسّر الله له لبن أمّه وحنانها، ثم يسّر له عطف الوالدين

وحبّهما ثمّ يسّر له سبل المعاش كلّها من ولادته إلى مماته ..

3 - * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * يحتمل المعنى كذلك : أنّ الله تعالى

سهّل للإنسان الطّريق الذي يريد سلوكه من طريق الخير والهدى

وطريق الشّر والضّلال ووهبه عقلاً يميّز به بين الخير والشّر كما

في قوله تعالى : * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا *

(الإنسان آية:3) ..

وفي لفظ (السّبيل) إيماء بأنّ الدُّنيا إنّما هي طريق وسبيل يمرّ فيه

الإنسان والمقصد غيرها لذلك عقبه بقوله : * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ

إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * ..

وجاء تقديم (السّبيل) على فعله هنا ولم يقل: (ثمّ يسّر له السّبيل)

ليفيد للاهتمام كما أنّ فيه رعاية للفواصل ...

وقال تعالى : * فَأَقْبَرَهُ * ولم يقل : " فقبره " لأنّ (قبَرَ) معناه :

"باشر عملية الدّفن" لذلك قال : (فأقبره) أي : " جعل له قبراً وأمر

أن يُقبر فيه " تكريماً له لئلا يطرح كسائر الحيوانات ، كما قال

تعالى في قصّة قابيل لمّا قتل أخاه: * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي

الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ * (المائدة آية : 31) ...

وقال تعالى : * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * أي : إذا شاء أحياه بعد موته

وجاء قوله : * إذا شَاء * معترضاً بين جملة : * أماته فأقبره *

وكلمة : * أنشره * ردّاً على المشركين في زعمهم أنّ عدم

التّعجيل بالبعث دليل على انتفاء وقوعه ، فجاء تعليق الإنشار

بالمشيئة للدّلالة على أنّ البعث كائن لا محالة وأنّ وقته غير

متعين وليس معلوماً لأحد إلاّ الله تعالى فمتى شاء أن يحيي

الخلق أحياهم ...

وتأمّل كيف جاء العطف بكلّ حرف في مكانه المناسب :

قال تعالى : * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * فعطف هنا ب(الفاء) التي

تفيد التّعقيب المباشر ولم يقل : "ثم قدّره" لأنّ التّقدير كان تابعًا

للخلق وملازمًا له وليست بينهما مهلة !!..

وقال : * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه * فعطف هنا ب(ثُمّ) التي تفيد التّرتيب

مع التّراخي لأنّ بين خلق الجنين في بطن أمّه وبين إخراجه منه

وتسهيل سبيله مهلة وزمن !..

وقال بعدها : * ثُمَّ أَمَاتَهُ * فجاء العطف هنا كذلك ب(ثُمّ) التي

تفيد التّراخي لأنّ بين ولادة الإنسان وبين موته مدّة ومهلة !!..

وقال : * فَأَقْبَرَه * فجاء العطف هنا ب(الفاء) التي تفيد التّعقيب

لأنّ الإنسان إذا مات يُدفن في القبر مباشرة فليست بين الموت

والإقبار مهلة ولا تراخ !!..

وقال بعدها : * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَه * فعطف هنا ب(ثُمّ) لأنّ بين

الإقبار وبين البعث فُسحة !!..

فتأمّل دقّة التّعبير القرآني في استعمال الألفاظ والحروف في

مواضعها مع مراعاة المعاني وفواصل الآيات !!..

والله أعلم ...

والحمد لله ربّ العالمين ..