(( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ))  Bsm-allah3

قال الله عزّ وجل : * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ *

(سورة النّحل آية : 70) ..

وقال تعالى : * وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا * (سورة الحج آية : 5) ..

المعنى الإجمالي للآيتين هو : أنّ " من النّاس من يتوفّى وهو على كامل قوّته وكماله ، ومنهم من يردُّ إلى أرذل العمر

(وهو الهرم وما بعد الشّيخوخة) فيصير كما كان في أوّل طفولته ضعيف البنية سخيف العقل،قليل الفهم فاقد الذّاكرة.."

ونلاحظ أنّه في الآية الأولى جاء قوله تعالى : (لكي لا يعلم بعد علم شيئا) بينما في الثّانية قال : (لكيلا يعلم (مِنْ) بعد

علم شيئا) بزيادة (مِن) فما الفرق بين التّعبيرين ؟؟ ..

الجواب :

زيادة (مِن) في الآية الثّانية يفيد معنى آخر ، لأنّ (من)في هذه تفيد ابتداء الغاية ، أي أنّه ليس هناك فاصل زمني ...

ولتوضيح المعنى أكثر أذكر هذه الأمثلة :

1 - قال تعالى : * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * (سورة العنكبوت

آية:55) أي أنّ العذاب ملتصق بأهل النّار وليس بينهم وبين النّار فاصل.. ولم يقل : (فوقهم وتحت أرجلهم) التي

تحتمل أن يكون هناك فاصل ومسافة ..

2 – قال تعالى : * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا * (سورة فصّلت آية : 10) أي : جعل الجبال فوق الأرض ملتصقة

بها مباشرة ليس بينهما فاصل ...

وتأمّل قوله تعالى : * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا (فَوْقَكُمُ) الطُّورَ * (البقرة آية : 63) أي أنّ بني إسرائيل قد شاهدوا

الجبل يُقتلع من مكانه ويرتفع فوقهم ، ولم يقل : (من فوقكم) لأنّ الجبل لم يكن ملتصقاً بهم إنّما كان كالظّلّة فوقهم

قال تعالى : * وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ (فَوْقَهُمْ) كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ * (الأعراف آية : 171) ...

إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى ...

نأتي الآن إلى الآيتين السّابقتين :

فقوله تعالى : * لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا * الكلام هنا عن صنف من النّاس وهم الذين تطول أعمارهم فيتضاءل

رصيدهم المعرفي شيئا فشيئا ويفقدون ذاكرتهم تدريجيا في زمن طويل إلى أن يفقدوها تماماً فينسون كلّ ما علموا

من علم قبل ذلك ...

أمّا قوله تعالى : * لِكَيْلا يَعْلَمَ (مِن بَعْدِ عِلْمٍ) شَيْئًا * فالكلام هنا عن صنف آخر من النّاس وهم الذين تطول أعمارهم

ويفقدون ذاكرتهم في لحظة وجيزة دون فاصل زمني فيصبح ذلك الإنسان في لحظة من اللّحظات وقد نسي كلّ شيء

فتراه قد عجز تماماً على تذكّر ما فات فينكر ما عرف ويعجز عمّا قدر عليه وكلّ ذلك يحدث له في لحظة وجيزة دون

تراخ أو فاصل زمني طويل ..

إذا علمت هذا يبقى السّؤال :

لماذا جاءت * لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا * في سورة النّحل بينما جاءت * لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا * في سورة الحج ؟

تأمّل دقّة التّعبير القرآني :

ففي سورة النّحل جاء ذكر خلق الإنسان موجزاً دون تفصيل قال تعالى : * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ * فجاء بعدها : * وَمِنكُم

مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * (آية : 70) دون زيادة (من) فجاء الحذفُ مناسباً

للإيجاز ..

بينما في سورة الحج جاء ذكر خلق الإنسان مفصّلا قال تعالى:* يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن

تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ

نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ * فجاء بعدها : * وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ

شَيْئًا * فجاءت زيادة (من) هنا مناسبة للإطناب والتّفصيل ..

وإذا دقّقت النّظر في الرّسم القرآني فإنّك ستجد أنّ كلمة (لكيلا) قد رسمت بشكل مختلف في كلّ آية من الآيتين :

ففي الآية الأولى رُسمت مقطوعة هكذا (لكي لا)،بينما في الآية الثّانية رسمت بالوصل هكذا (لكيلا) لأنّ الحالتين مختلفتان

كما سبقت الإشارة إلى ذلك آنفاً ..

وجاءت (لكي لا) مقطوعة ومفصولة في سورة النّحل متناسبة مع قوله (بعد علم) التي تحتمل الزّمن الطّويل والتّراخي في

الفاصل الزّمني ..

وجاءت (لكيلا) موصولة في سورة الحج متناسبة مع قوله (من بعد علم) التي تفيد ابتداء الغاية والإتّصال وعدم وجود

الفاصل ..

فتأمّل هذا السّر البديع ...

وفي التّعبير بقوله تعالى : (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) إشارة إلى أنّ هذه المرحلة من عمر الإنسان هي الأرذل والأسوأ في حياته لأنّه

تفسد فيها الحواس ويختلُّ فيها النّطق والفكر وهي مرحلة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد ، لذلك كان النّبيّ صلّى الله

عليه وسلّم يقول دبر الصّلاة : ((اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من البخل وأعوذ بك من أن أردّ إلى أرذل العمر

وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر)) (رواه البخاري) ...

والله أعلم ..

والحمد لله ربّ العالمين ..