وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا))  Bsm-allah3
قال الله عزّ وجل : * وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *

(النّحل آية : 78) ..

في هذه الآية الكريمة مسائل منها :

- تقديم السّمع على الأبصار والأفئدة ؟
- إفراد كلمة (السمع) وجمع (الأبصار) و(الأفئدة) ؟

الجواب :

أوّلاً - تقديم السّمع على الأبصار والأفئدة في الآية الكريمة يشير إلى حقيقة علمية وهي أنّ حاسّة السّمع لدى الصّبي هي

أوّل حاسّة تؤدّي وظيفتها عقب ولادة الطفل ، وهذا أمر محسوس ومُشاهد فترى الصّبيّ إذا سمع صوتا شعر به وأحس به

فوراً وصدر منه ما يدلّ على أنّه متأثّر به ومنزعج منه ...

أمّا حاسّة البصر فإنّها لا تبدأ في أداء وظيفتها إلاّ بعد فترة، ودليل ذلك أنّك إذا مددت يدك قريبا من عيني المولود فإنّه لا

يحسّ بشيء ولا يرى شيئاً ولا ترمش عينه ولا تتحرك ...

أمّا الإدراك فيأتي بعد مدّة طويلة من الولادة لذلك جاء تقديم السّمع ثمّ الأبصار ثمّ بعد ذلك الأفئدة ...

ثانياً - إفراد كلمة (السّمع) ولم يقل (الأسماع) كما في قوله : (الأبصار) و(الأفئدة) :

تأمّل دقّة التّعبير في كلام الله عزّ وجل ، فالبصر حاسّة شعورية تخضع لإرادة صاحبها بمعنى أنّه بإمكان الشّخص أن يرى

أو لا يرى حسب إرادته الشّخصية كما أنّه بإمكانه أن يلفت نظره عن شيء لا يرغب في رؤيته ...

فكأنّ البصر متعدّد ومتجدّد لذلك جاء هنا بالجمع (أبصار) .. أمّا حاسّة (السّمع) فهي حاسّة لا شعورية ولا إرادية، فالإنسان

لا يستطيع أن يُصمّ سمعه بل يسمع جميع الأصوات التي حوله إجباراً لا اختياراً فالصّوت يصل إلى أذنه سواء رضيه أو لم

يرض به والسّمع حاسّة تعمل في جميع الأوقات في اللّيل والنّهار وفي النّوم واليقظة ..

فجميع الحواس تتعطّل وظيفتها عند النّوم ،إلاّ حاسة السّمع فهي تعمل وتؤدّي وظيفتها وهي الأداة التي يستدعى النّائم من

خلالها تأمّل قصّة أهل الكهف فإنّهم لم يكونوا ليناموا في سُبات عميق تلك المدّة الطّويلة إلاّ إذا حجب الله عنهم هذه

الحاسّة،فلا تزعجهم الأصوات ... قال تعالى : * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * (سورة الكهف آية : 11)

والمعنى : (عطّلنا حاسّة السّمع عند أولئك الفتية طوال تلك المدّة ) .. فقد ربط بين الضّرب على (الآذان) وبين النّوم دون

استيقاظ تلك الفترة الطويلة (ثلاثمائة وتسع سنين) ..

وإذا كانت حاسّة السّمع هي الحاسّة الوحيدة التي تعمل في كلّ الأوقات وهي أوّل الإدراكات وتصاحب الإنسان منذ أنْ يُولدَ

إلى أنْ يفارق الحياة ، ولا تغيب عنه في أيّ وقت من الأوقات حتّى وإن كان نائماً صار السّمع كأنّه حاسّة واحدة متّصلة لا

تتعدّد لذلك جاءت التّعبير عنها بالإفراد على المصدر دون الجمع ..

- قد يرد في الآية سؤال آخر وهو : أنّ قوله تعالى : * وجعل لكم السّمع والأبصار * هو عطف على قوله : * أخرجكم

من بطون أمّهاتكم * وهذا يفيد أن جعل السّمع والأبصار يكون بعد الإخراج من البطن ؟؟

والجواب : أنّ (الواو) عند أهل اللّغة لا تقتضي الترتيب ولا التعقيب وإنّما هي لمطلق الجمع،فمثلاً عندما تقول: (دخل محمد

وأحمد) فهذا لا يعني أنّ محمداً دخل أولاً، فالكلام يحتمل أن يكون محمد هو من دخل أوّلاً كما يحتمل أنّ أحمد هو من دخل

أولاً ، كما يحتمل أنّهما دخلا معاً في وقت واحد ... وهذا معنى : أنّ (الواو) هي لمطلق الجمع ولا تقتضي الترتيب أو

التّعقيب ..

فقوله تعالى : * وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ * لا يقتضي أنّ جعل السّمع والأبصار والأفئدة يكون بعد الإخراج من

البطن ... بل إنّ الجنين يكتمل خلقه وهو ما يزال في بطن أمّه كما جاء في الحديث : (( إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه

أربعين يوماً نطفة ثمّ يكون علقة مثل ذلك ثمّ يكون مضغة مثل ذلك ثمّ يرسل إليه المَلك فينفخ فيه الرّوح ... )) (رواه

البخاري ومسلم) ..

لكن يبقي السّؤال : إذا كانت (الواو) لمطلق الجمع ولا تقتضي التّرتيب فما السّرّ البياني للتّقديم والتّأخير في هذه الآية

الكريمة ؟

إذا تأمّلنا الآية سنجد سرّاً بديعاً وهو أنّ الجنين في بطن أمّه يجعل الله له أذنين وعينين وقلباً ، لكنّه يظلّ تابعاً لأمّه مادام

في بطنها فإذا قدّر الله له الخروج وخرج صار مستقلاًّ بذاته عن أمّه فيتنفس باستقلالية ، ويهضم الطعام، وتبدأ كافّة أجهزة

جسمه وحواسّه في العمل باستقلالية تامّة ، فلا يبدأ انتفاع الولد بحواسّه إلاّ بعد انفصاله عن أمّه ، لذلك قال تعالى : * وَاللَّهُ

أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * فكأنّ تلك الحواس إنّما

خلقت للصبيّ في تلك اللّحظة بالذّات (أي بعد خروجه من بطن أمّه مباشرة ) حيث يبدأ في انتفاعه بها في استقلالية تامّة

... فتأمّل ...


والله أعلم.

والحمد لله ربّ العالمين ...