اقتضاء النهي الفساد
(عرض رأي شيخ الإسلام ابن تيمية)


الأصل الذي عليه السلف وأئمة الفقهاء وهو الصواب: أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة.
 كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان: يستدلون على فساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها، وهذا متواتر عنهم وهذا نازع فيه طائفة من أهل الكلام .
 الشارع يحرم الشيء لما فيه من المفسدة الخالصة أو الراجحة: ومقصوده بالتحريم المنع من ذلك الفساد وجعله معدوما، فلو كان مع التحريم يترتب عليه من الأحكام ما يترتب على الحلال فيجعله لازما نافذا كالحلال لكان ذلك إلزاما منه بالفساد الذي قصد عدمه، فيلزم أن يكون ذلك الفساد قد أراد عدمه مع أنه ألزم الناس به وهذا تناقض ينزه عنه الشارع صلى الله عليه وسلم .
 إن لم يكن النهي دليلا على فساد المنهي عنه: لم يكن عن الشارع ما يبين الصحيح من الفاسد فإنما في كلامه الأمر والنهي والتحليل والتحريم ونفي القبول والصلاح، ونحو ذلك من العبارات .
 لا يوجد قط في شيء من صور النهي: صورة ثبتت فيها الصحة بنص ولا إجماع، فالطلاق المحرم، والصلاة في الدار المغصوبة فيها نزاع، وليس على الصحة نص يجب اتباعه، فلم يبق مع المحتج بهما حجة .
 التحريم إذا كان بحق الله: صار بمنزلة الميتة والدم، لا سبيل إلى حلها بحال، فيكون التحريم في العقد.
 التحريم إذا كان لآدمي معين أمكن أن يزول برضاه، ولو فيما بعد: لم يكن التحريم في نفس العقد.
 والتحقيق: أن هذا النوع لم يكن النهي فيه لحق الله كنكاح المحرمات، والمطلقة ثلاثا، وبيع الربا، بل لحق الإنسان.
 فالنهي لما هنا كان لحق الآدمي: لم يجعله الشارع صحيحا لازما كالحلال، بل أثبت حق المظلوم وسلطه على الخيار، فإن شاء أمضى وإن شاء فسخ .
 من البيوع ما نهي عنها لما فيها من ظلم أحدهما للآخر:
1) كبيع المصراة، والمعيب.
2) وتلقي السلع.
3) والنجش، ونحو ذلك.
 هذه البيوع: لم يجعلها الشارع لازمة كالبيوع الحلال، بل جعلها غير لازمة والخيرة فيها إلى المظلوم إن شاء أبطلها وإن شاء أجازها فإن الحق في ذلك له، والشارع لم ينه عنها لحق مختص بالله كما نهى عن الفواحش، بل هذه إذا علم المظلوم بالحال في ابتداء العقد، مثل أن يعلم بالعيب والتدليس والتصرية، ويعلم السعر إذا كان قادما بالسلعة ويرضى بأن يغبنه المتلقي جاز ذلك، فكذلك إذا علم بعد العقد إن رضي أجاز، وإن لم يرض كان له الفسخ، وهذا يدل على أن العقد يقع غير لازم بل موقوفا على الإجازة.
 وكذلك:
4) المخطوبة متى أذن الخاطب الأول فيها جاز.
5) الصلاة في الدار المغصوبة.
6) والذبح بآلة مغصوبة.
7) وطبخ الطعام بحطب مغصوب، وتسخين الماء بحطب مغصوب.
كل هذا: إنما حرم لما فيه من ظلم الإنسان، وذلك يزول بإعطاء المظلوم حقه، فإذا أعطاه بدل ما أخذه من منفعة ماله أو من أعيان ماله، فأعطاه كراء الدار وثمن الحطب وتاب هو إلى الله من فعل ما نهاه عنه فقد برئ من حق الله وحق العبد وصارت صلاته كالصلاة في مكان مباح، والطعام بوقود مباح، والذبح بسكين مباحة، وإن لم يفعل ذلك كان لصاحب السكين أجرة ذبحه ولا تحرم الشاة كلها، وكان لصاحب الدار أجرة داره لا تحبط صلاته كلها لأجل هذه الشبهة، وهذا إذا أكل الطعام ولم يوفه ثمنه كان بمنزلة من أخذ طعاما لغيره فيه شركة ليس فعله حراما، ولا هو حلالا محضا فإن نضج الطعام لصاحب الوقود فيه شركة، وكذلك الصلاة يبقى عليه اسم الظلم ينقص من صلاته بقدره فلا تبرأ ذمته كبراءة من صلى صلاة تامة ولا يعاقب كعقوبة من لم يصل بل يعاقب على قدر ذنبه، وكذلك آكل الطعام يعاقب على قدر ذنبه والله تعالى يقول: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} [الزلزلة: 7] {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 8] .
 إنما قيل في الصلاة في الثوب النجس، وبالمكان كذلك: بالإعادة بخلاف هذا لأنه هناك لا سبيل له إلى براءة ذمته إلا بالإعادة، وهنا يمكنه ذاك بإرضائه المظلوم .


 نقد ابن تيمية للتفريق بين ما نهي عنه لذاته، وما نهي عنه لغيره:
- كل ما نهى الله عنه لا بد أن يشتمل على معنى فيه يوجب النهي، ولا يجوز أن ينهى عن شيء لا لمعنى فيه أصلا بل لمعنى أجنبي عنه: فإن هذا من جنس عقوبة الإنسان بذنب غيره والشرع منزه عن ذلك فكما لا تزر وازرة وزر أخرى في العمال فكذلك في الأعمال، لكن في الأشياء ما ينهى عنه لسد الذريعة فهو مجرد عن الذريعة لم يكن فيه مفسدة كالنهي عن الصلاة في أوقات النهي قبل طلوع الشمس وغروبها ونحو ذلك، وذلك لأن هذا الفعل اشتمل على مفسدة الإفضاء إلى التشبه بالمشركين وهذا معنى فيه.
- نقد تفريق الحنفية بين ما نهي عنه لأصله وبين ما نهي عنه لوصفه:
يقول هؤلاء: إن النهي قد يكون لوصف في الفعل لا في أصله فيدل على صحته كالنهي عن صوم يومي العيدين، قالوا هو منهي عنه لوصف العيدين لا لجنس الصوم، فإذا صام صح لأنه سماه صوما فيقال لهم: وكذلك الصوم في أيام الحيض، وكذلك الصلاة بلا طهارة وإلى غير القبلة جنسه مشروع، وإنما النهي لوصف خاص وهو الحيض والحدث واستقبال غير القبلة ولا يعرف بين هذا وهذا فرق معقول له تأثير في الشرع.
فإنه إذا قيل: الحيض والحدث صفة في الحائض والمحدث، وذلك صفة في الزمان.
قيل: والصفة في محل الفعل زمانه ومكانه كالصفة في فاعله فإنه لو وقف في عرفة في غير وقتها أو في غير عرفة لم يصح وهو صفة في الزمان والمكان، وكذلك لو رمى الجمار في غير أيام منى أو في غير منى وهو صفة في الزمان والمكان، واستقبال غير القبلة هو الصفة في الجهة لا فيه ولا يجوز، ولو صام بالليل لم يصح وإن كان هذا زمانا، فإذا قيل: الليل ليس بمحل للصوم شرعا، قيل: ويوم العيد ليس بمحل للصوم شرعا كما أن زمان الحيض ليس بمحل للصوم شرعا.
نقد تفريق الجمهور – خلافا للحنابلة - بين ما نهي عنه لذاته، وبين ما نهي عنه لغيره:
- يقول بعض الفقهاء في:
1) الصلاة في الثوب الحرير: إن النهي هنا وإن كان لحق الله إلا أنه لمعنى في غير المنهي عنه، فإنه نهي عن ذلك في الصلاة وغير الصلاة، ولم ينه عنه في الصلاة فقط.
- وكذلك يقولون:
2) في الصلاة في الدار المغصوبة.
3) والثوب المغصوب.
4) والطلاق في الحيض.
5) والبيع وقت النداء، ونحو ذلك.
وهذا الذي قالوه لا حقيقة له:
- فإنه إن عنى بذلك أن نفس الفعل المنهي عنه ليس فيه معنى يوجب النهي فهذا باطل، فإن نفس البيع اشتمل على تعطيل الصلاة، ونفس الصلاة اشتملت على الظلم والفخر والخيلاء، ونحو ذلك مما أوجب النهي، كما اشتملت الصلاة في الثوب النجس على ملابسة الخبيث.
- وإن أرادوا بذلك: أن ذلك المعنى لا يختص بالصلاة، بل هو مشترك بين الصلاة وغيرها، فهذا صحيح فإن البيع وقت النداء لم ينه عنه إلا لكونه شاغلا عن الصلاة، وهذا موجود في غير البيع لا يختص بالبيع.
لكن هذا الفرق: لا يجيء في طلاق الحائض فإنه ليس هناك معنى مشترك، وهم يقولون إنما نهي عنه لإطالة العدة، وذلك خارج عن الطلاق، فيقال: وغير ذلك من المحرمات كذلك إنما نهي عنها لإفضائه إلى فساد خارج عنها، فالجمع بين الأختين نهي عنه لإفضائه إلى قطيعة الرحم، والقطيعة أمر خارج عن النكاح، والخمر والميسر حرما وجعلا رجسا من عمل الشيطان لأن ذلك يقضي إلى الصد عن الصلاة وإيقاع العداوة والبغضاء وهو أمر خارج عن الخمر، والربا والميسر حرما لأن ذلك يفضي إلى أكل المال بالباطل وذلك خارج عن نفس عقد الربا والميسر.
 الفرق الشرعي هو الفرق المؤثر لا الفرق المنتقض:
- الفرق بين فعلين: لا بد أن يكون فرقا شرعيا فيكون معقولا، ويكون الشارع قد جعله مؤثرا في الحكم، فحيث علق به الحل أو الحرمة الذي يختص بأحد الفعلين، كثير من الناس يتكلم بفروق لا حقيقة لها ولا تأثير له في الشرع.
وكذلك الفرق: قد يفرق بوصف يدعي انتقاضه بإحدى الصورتين ليس هو مختصا بها بل هو مشترك بينهما وبين الأخرى.
كقولهم: النهي لمعنى في المنهي عنه وذلك لمعنى في غيره أو ذاك لمعنى في وصفه دون أصله، ولكن قد يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة والعقد، وقد يكون لمعنى مشترك بينها وبين غيرها كما ينهى المحرم عما يختص بالإحرام مثل حلق الرأس، ولبس العمامة، وغير ذلك من الثياب المنهي عنها، وينهى عن نكاح امرأته، وينهى عن صيد البر، وينهى مع ذلك عن الزنا، وعن ظلم الناس فيما ملكوه من الصيد، وحينئذ فالنهي لمعنى مشترك أعظم ولهذا لو قتل المحرم صيدا مملوكا وجب عليه الجزاء لحق الله ووجب عليه بدله لحق المالك، ولو زنى لأفسد إحرامه كما يفسده بنكاح امرأته ولاستحق حد الزنا مع ذلك.
وعلى هذا: فمن لبس في الصلاة ما يحرم فيها وفي غيرها كالثياب التي فيها خيلاء، وفخر: كالمسبلة، والحرير، كان أحق ببطلان الصلاة من الثوب النجس.
والبيع بعد النداء إذا كان قد نهي عنه وغيره مشغل عن الجمعة: كان ذلك أوكد في النهي، وكل مشتغل عنها فهو شر وفساد لا خير فيه، والملك الحاصل بذلك كالملك الذي لم يحصل إلا بمعصية الله وغضبه ومخالفته: كالذي لا يحصل إلا بغير ذلك من المعاصي، مثل: الكفر، والسحر، والكهانة، والفاحشة، وقد قال النبي: «حلوان الكاهن خبيث، ومهر البغي خبيث» فإذا كنت لا أملك السلعة إن لم أترك الصلاة المفروضة كان حصول الملك سبب ترك الصلاة، كما أن حصول الحلوان والمهر بالكهانة والبغاء، وكما لو قيل له: إن تركت الصلاة اليوم أعطيناك عشرة دراهم فإن ما يأخذه على ترك الصلاة خبيث، كذلك ما يملكه بالمعاوضة على ترك الصلاة خبيث.
ولو استأجر أجيرا بشرط أن لا يصلي: كان هذا الشرط باطلا وكان ما يأخذه عن العمل الذي يعمله بمقدار الصلاة خبيث مع أن جنس العمل بالأجرة جائز.
كذلك جنس المعاوضة جائز لكن بشرط أن لا يتعدى على فرائض الله: وإذا حصل البيع في هذا الوقت وتعذر الرد فله نظير ثمنه الذي أداه ويتصدق بالربح والبائع له نظير سلعته، ويتصدق بربح إن كان ربح، ولو تراضيا بذلك بعد الصلاة لم ينفع، فإن النهي هنا لحق الله، فهو كما لو تراضيا بمهر البغي، وهناك يتصدق به على أصح القولين لا يعطى للزاني، وكذلك في الخمر ونحو ذلك مما أخذ صاحبه منفعة محرمة فلا يجمع له العوض والمعوض، فإن ذلك أعظم إثما من بيعه فإذا كان لا يحل له أن يباع الخمر بالثمن، فكيف إذا أعطي الخمر وأعطي الثمن، وإذا كان لا يحل للزاني أن يزني وإن أعطي، فكيف إذا أعطي المال والزنا جميعا، بل يجب إخراج هذا المال كسائر أموال المصالح المشتركة، فكذلك هنا إذا كان قد باع السلعة وقت النداء بربح واحد وأخذ سلعته، فإن فاتت تصدق بالربح ولم يعطه للمشتري فيكون إعانة له على الشراء، والمشتري يأخذ الثمن ويعيد السلعة، فإن باعها بربح تصدق به ولم يعطه للبائع، فيكون قد جمع له بين ربحين.

 الفعل المعين لا يؤمر بعينه ولا ينهى عن عينه:
- التحقيق أن الفعل المعين: كالصلاة في الدار المعينة لا يؤمر بعينها وينهى عن عينها؛ لأنه تكليف ما لا يطاق فإنه تكليف للفاعل أن يجمع بين وجود الفعل المعين وعدمه وإنما يؤمر بها من حيث هي مطلقة وينهى عن الكون في البقعة فيكون مورد الأمر غير مورد النهي، ولكن تلازما في المعين.
- والعبد هو الذي جمع بين المأمور به والمنهي عنه: لا أن الشارع أمره بالجمع بينهما فأمره بصلاة مطلقة ونهاه عن كون مطلق.
- أما المعين فالشارع لا يأمر به ولا ينهى عنه كما في سائر المعينات: وهذا أصل مطرد في جميع ما أمر الله به من المطلقات، بل في كل أمر؛ فإنه إذا أمر بعتق رقبة مطلقة كقوله: {فتحرير رقبة} أو بإطعام ستين مسكينا؛ أو صيام شهرين متتابعين أو بصلاة في مكان أو غير ذلك فإن العبد لا يمكنه الامتثال إلا بإعتاق رقبة معينة وإطعام طعام معين لمساكين معينين وصيام أيام معينة وصلاة معينة في مكان معين.
- فالمعين في جميع المأمورات المطلقة: ليس مأمورا بعينه وإنما المأمور به مطلق والمطلق يحصل بالمعين.
1) فالمعين فيه شيئان:
2) خصوص عينه.
3) والحقيقة المطلقة.
فالحقيقة المطلقة: هي الواجبة.
وأما خصوص العين: فليس واجبا ولا مأمورا به، وإنما هو أحد الأعيان التي يحصل بها المطلق؛ بمنزلة الطريق إلى مكة ولا قصد للآمر في خصوص التعيين.
فتبين بذلك: أن تعيين عين الفعل وعين المكان ليس مأمورا به فإذا نهي عن الكون فيه لم يكن هذا المنهي عنه قد أمر به؛ إذ المأمور به مطلق وهذا المعين ليس من لوازم المأمور به وإنما يحصل به الامتثال كما يحصل بغيره
فإن قيل: إن لم يكن مأمورا به فلا بد أن يباح الامتثال به والجمع بين النهي والإباحة جمع بين النقيضين قيل: ولا يجب أن يباح الامتثال به بل يكفي أن لا ينهى عن الامتثال به فما به يؤدي الواجب لا يفتقر إلى إيجاب ولا إلى إباحة بل يكفي أن لا يكون منهيا عن الامتثال به فإذا نهاه عن الامتثال به امتنع أن يكون المأمور به داخلا فيه من غير معصية.
فهنا أربعة أقسام:
1) أن يكون ما به يمتثل واجبا: كإيجاب صيام شهر رمضان بالإمساك فيه عن الواجب.
2) وأن يكون مباحا: كخصال الكفارة؛ فإنه قد أبيح له نوع كل منها وكما لو قال: أطعم زيدا أو عمرا.
3) وأن لا يكون منهيا عنه: كالصيام المطلق والعتق المطلق فالمعين ليس منهيا عنه ولا مباحا بخطاب بعينه إذ لا يحتاج إلى ذلك.
4) أن يكون منهيا عنه: كالنهي عن الأضاحي المعيبة وإعتاق الكافر.
فإذا صلى في المغصوب:
فقد يقال: إنما نهي عن جنس الكون فيه لا عن خصوص الصلاة فيه فقد أدى الواجب بما لم ينه عن الامتثال به لكن نهي عن جنس فعله فبه اجتمع في الفعل المعين ما أمر به من الصلاة المطلقة وما نهي عنه من الكون المطلق فهو مطيع عاص.
ولا نقول: إن الفعل المعين مأمور به منهي عنه لكن اجتمع فيه المأمور به والمنهي عنه كما لو صلى ملابسا لمعصية من حمل مغصوب.
وقد يقال: بل هو منهي عن الامتثال به كما هو منهي عن الامتثال بالصلاة في المكان النجس والثوب النجس؛ لأن المكان شرط في الصلاة والنهي عن الجنس نهي عن أنواعه فيكون منهيا عن بعض هذه الصلاة بخلاف المنهي عنه إذا كان منفصلا عن أبعاضها كالثوب المحمول فالحمل ليس من الصلاة.
فهذا محل نظر الفقهاء وهو محل للاجتهاد: لا أن عين هذه الأكوان هي مأمور بها ومنهي عنها فإن هذا باطل قطعا بل عينها وإن كانت منهيا عنها فهي مشتملة على المأمور به وليس ما اشتمل على المأمور به المطلق يكون مأمورا به.
 الإجزاء والإثابة يجتمعان ويفترقان:
فالإجزاء: براءة الذمة من عهدة الأمر وهو السلامة من ذم الرب أو عقابه.
والثواب: الجزاء على الطاعة.
وليس الثواب: من مقتضيات مجرد الامتثال.
بخلاف الإجزاء: فإن الأمر يقتضي إجزاء المأمور به.
لكن هما مجتمعان في الشرع: إذ قد استقر فيه أن المطيع مثاب والعاصي معاقب.
وقد يفترقان:
- فيكون الفعل مجزئا لا ثواب فيه: إذا قارنه من المعصية ما يقابل الثواب، كما قيل: {رب صائم حظه من صيامه العطش ورب قائم حظه من قيامه السهر}، فإن قول الزور والعمل به في الصيام أوجب إثما يقابل ثواب الصوم وقد اشتمل الصوم على الامتثال المأمور به والعمل المنهي عنه فبرئت الذمة للامتثال ووقع الحرمان للمعصية.
- وقد يكون مثابا عليه غير مجزئ: إذا فعله ناقصا عن الشرائط والأركان فيثاب على ما فعل ولا تبرأ الذمة إلا بفعله كاملا.
وهذا تحرير جيد: أن فعل المأمور به يوجب البراءة فإن قارنه معصية بقدره تخل بالمقصود قابل الثواب وإن نقص المأمور به أثيب ولم تحصل البراءة التامة فإما أن يعاد؛ وإما أن يجبر؛ وإما أن يأثم.
فتدبر هذا الأصل: فإن المأمور به مثل المحبوب المطلوب إذا لم يحصل تاما لم يكن المأمور بريئا من العهدة فنقصه إما أن يجبر بجنسه أو ببدل أو بإعادة الفعل كاملا إذا كان مرتبطا وإما أن يبقى في العهدة كركوب المنهي عنه.
فالأول: مثل من أخرج الزكاة ناقصا؛ فإنه يخرج التمام.
والثاني: مثل من ترك واجبات الحج؛ فإنه يجبر بالدم؛ ومن ترك واجبات الصلاة المجبورة بالسجود.
والثالث: مثل من ضحى بمعيبة أو أعتق معيبا أو صلى بلا طهارة.
والرابع: مثل من فوت الجمعة والجهاد المتعين.
وإذا حصل مقارنا لمحظور يضاد بعض أجزائه: لم يكن قد حصل كالوطء في الإحرام فإنه يفسده.
وإن لم يضاد بعض الأجزاء: يكون قد اجتمع المأمور والمحظور كفعل محظورات الإحرام فيه أو فعل قول الزور والعمل به في الصيام.
فهذه ثلاثة أقسام في المحظور: كالمأمور.
إذ المأمور به إذا تركه:
1) يستدرك تارة بالجبران والتكميل.
2) وتارة بالإعادة.
3) وتارة لا يستدرك بحال.
والمحظور كالمأمور:
1) إما أن يوجب فساده فيكون فيه الإعادة.
2) أو لا يستدرك.
3) وإما أن يوجب نقصه مع الإجزاء فيجبر.
4) أو لا يجبر.
5) وإما أن يوجب إثما فيه يقابل ثوابه.
فالأول: كإفساد الحج.
والثاني: كإفساد الجمعة.
والثالث: كالحج مع محظوراته.
والرابع: كالصلاة مع مرور المصلي أمامه.
والخامس: كالصوم مع قول الزور والعمل به.
فهذه المسائل: مسألة الفعل الواحد والفاعل الواحد والعين الواحدة هل يجتمع فيه أن يكون محمودا مذموما؛ مرضيا مسخوطا؛ محبوبا مبغضا؛ مثابا معاقبا؛ متلذذا متألما؛ يشبه بعضها بعضا؟ والاجتماع ممكن من وجهين لكن من وجه واحد متعذر وقد قال تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} .

مأخذ تصحيح الحنابلة للطهارة في آنية الذهب والفضة، مع إفسادهم الصلاة في الدار المغصوبة أو اللبس الحرام، أو الحج بمال حرام، أو الذبح بآلة مغصوبة:
ذكروا فرقين:
الفرق الأول: أن المحرم هنا منفصل عن العبادة، فإن الإناء منفصل عن المتطهر، بخلاف لابس المحرم، وآكله، والجالس عليه، فإنه مباشر له، قالوا: فأشبه ما لو ذهب إلى الجمعة بدابة مغصوبة.
الفرق الثاني: أن التحريم إذا كان في ركن العبادة وشرطها أثر فيها، كما كان في الصلاة في اللباس أو البقعة، وأما إذا كان في أجنبي عنها لم يؤثر، والإناء في الطهارة أجنبي عنها، فلهذا لم يؤثر فيها.
قال ابن تيمية عن الفرق الثاني: وهو أفقه .
قلت: هذا والله أعلم، يعني موافقة ابن تيمية والحنابلة لمذهب الجمهور في التفريق بين النهي إذا كان عائدا إلى ذاته (ركنه أو شرطه)، وهذا لا يعني اقتصارهم عليه، فالحنابلة يفسدون هذه الصورة وهي إذا كان النهي عائدا إلى ركن الشيء أو شرطه، ويزيدون على ذلك بما إذا كان النهي عائدا إلى مجاور، وليس في الطهارة من الآنية المحرمة ما يؤثر على ركن الطهارة أو شرطها أو مجاورها اللازم، وإنما هي جهة منفكة تماما، كمن صلى وستر عورته بثوب طاهر، لكنه لبس في ذراعه شيء من الحرير ونحو ذلك.

النتائج
النهي يقتضي فساد المنهي عنه: وهو قول الفقهاء والسلف، وقد كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان: يستدلون على فساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها، وهذا متواتر عنهم، وخالف في المسألة طائفة من أهل الكلام.
 التحريم إذا كان لحق الله: صار بمنزلة الميتة والدم، لا سبيل إلى حلها بحال سواء كانت في العبادات أو العقود، فيكون التحريم في العقد.
 التحريم إذا كان لآدمي معين أمكن أن يزول برضاه، ولو فيما بعد: لم يكن التحريم في نفس العقد،
 اعتذر ابن تيمية عن قول السلف والفقهاء بوقوع الطلاق في الحيض: أنه تناقض، ويجوز التناقض إذا لم يكن في المسألة نص ولا إجماع.
 خلاصة الخلاصة: النهي يقتضي الفساد إلا إذا كان لحق آدمي يمكن تداركه.

__________________