تبسيط علوم السلف
الشريعة إنما جاءت للعمل بمقتضاها
إعداد
دكتور كامل محمد عامر
مختصر بتصرف من كتاب
الموافقات
فى
اصُول الأحكام
للحافظ أبى اسحاق ابراهيم بن موسى اللخمىّ الغرناطىّ
الشهير بالشاطبىّ
المتوفى سنة790
المسألة الأولى
شرط التكليف القدرة على المكلف به
فإذا ظهر في التشريع تكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه فقولالله تعالى:{إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }[البقرة:132] وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة وهو الإسلام.

المسألة الثانية
المطلوب من الإنسان على ثلاثة أقسام :
أحدها ما لم يكن داخلاً تحت قدرته ؛ وهذا قليل كقوله تعالى: { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }[البقرة:132] وحكمه أن المطلوب منه فعل ما تعلق به.
الثاني ما كان داخلا تحت قدرته مثل معظم الأفعال المكلف بها و الانسان مطالب بها صراحة.
الثالث ما قد يشتبه أمره كالحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها والظاهر أنها داخلة على الإنسان اضطراراً:
إمالأنها من أصل الخِلْقَةِ فلا يطالب إلا بتوابعها فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب.
وإما لأن لها باعثاً من غيره فتثور فيه فيقتضى لذلك أفعالاً أخر:
فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه فالطلب يرد على المثير كقوله عليه السلام :"تهادوا تحابوا" وكالنهى عن النظر المثير للشهوة الداعية إلى ما لا يحل وعين الشهوة لم ينه عنه.
وإن كان المثير لها هو السابق ولم يكن داخلاً تحت كسبة فالطلب يرد على اللواحق كالغضب المثير لشهوة الإنتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع.
فصل
ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر والحسد وحب الدنيا والجاه وما ينشأ عنها من آفات اللسان، وكذلك فقه الأوصاف الحميدة كالعلم والتفكر والاعتبار واليقين والمحبة والخوف والرجاء وأشباهها مما هو نتيجة عمل فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها.


المسألة الثالثة
الأوصاف التى لا قدرة للإنسان عليها نوعان:
ما كان نتيجة عمل كالعلم والحب فالجزاء يتعلق بها لإنها مسببة عن أسباب مكتسبة كقوله عليه الصلاة والسلام لأشج عبدالقيس ‏"‏إن فيك خصلتين يحبهما الله‏:‏ الحلم والأناة‏"‏‏[صحيح مسلم :كتاب الإيمان]و هى فى أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب ولكن يثاب و يعاقب على متعلقاتها.



المسألة الرابعة
أنواع المشاق:
المشقة نتيجة عمل غير مقدور عليه كالإنسان إذا تكلف الطيران فى الهواء وما أشبه ذلك.
المشقة نتيجة عمل مقدور عليه إلا أنها خارجة عن المعتاد بحيث تشوش على النفوس وهذه نوعان:
(1)أحداهما أن تكون المشقة مختصة بنفس العمل المكلف به بحيث لو وقع مرة واحدة لوُجِدَتْ فيه.
(2)والثانى أن لا تكون مختصة ولكن بالدوام عليها صارت شاقة كقوله عليه السلام : "خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا" [البخاري: كتاب الصوم، باب صوم شعبان].
المشقة نتيجة عمل مقدور عليه وليست خارجة عن المعتاد ولكن نفس التكليف شاق على النفس.
المسألة الخامسة
لا يوجد فى الشريعة تكليف بالمشاق
يقول الله سبحانه وتعالي: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] . وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78]

المسألة السادسة
التكليف فيه مشقة ولكن لا تسمى فى العادة مشقة كما لا يسمى فى العادة طلب المعاش مشقة
فصل
إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى:
· الانقطاع عنه أو عن بعضه.
· وإلى وقوع خلل فى صاحبه فى نفسه أو ماله أو حال من أحواله.
فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد.
وإن لم يكن فيها شىء من ذلك في الغالب فلا يعد فى العادة مشقة.
فصل
المشقة المعتادة في التكليف غير معتبرة
لقد عُلِمَ من الشريعة أن المشقة منهى عنها فإذا أمرت بما تلزم عنه فهى لم تأمر بها منفردة ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيآته بسبب ما يلحقة من المصائب والمشقات كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَب وَلَا نَصَب وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَن حَتَّى الشَّوْكَةٍ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ" [البخاري:كتاب المرضى]
فصل
المشقة ليس للمكلف أن يقصدها فى التكليف نظراً إلى عظم أجرها وله أن يقصد العمل الذى يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل. فإن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة فى التصرفات فلا يصلح منها إلا ما وافق الشريعة فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف الشريعة ؛ فقد نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ أَرَادُوا التَّشْدِيدَ بِالتَّبَتُّلِ، حِينَ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا، فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أنا، فأقوم وَلَا أَنَامُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا، فَلَا آتِي النِّسَاءَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ: "مَنْ رغب من سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي" [البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح] "وردَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَأَمَرَهُ بِإِتْمَامِ صِيَامِهِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْقِيَامِ فِي الشَّمْسِ"[البخاري:كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية].وَقَالَ عليه السلام: "هلك المتنطعون" [مسلم :كتاب العلم، باب هلك المتنطعون]

فصل
الأفعال المأذون فيها إما وجوبا أو ندبا أو إباحة إذا تسبب عنها مشقة
:
· فإما أن تكون معتادة فى مثل ذلك العمل وهنا ليست المشقة مقصودة كما تقدم.
· أو تكون غير معتادة فهى أولى أن لا تكون مقصودة ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله أو لا:
فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهياً عنه وغير صحيح فى التعبد به ومثال هذا حديث الناذر للصيام قائما فى الشمس فأمره ‏ النبى صلى الله عليه وسلم ‏ بإتمام الصوم وبالقعود والاستظلال (أمره أن يتم ما كان لله طاعة ونهاه عما كان لله معصية ) لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه ولا لنيل ما عنده إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشره لا بسبب الدخول فى العمل وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض الغير القادر على الصوم أو الصلاة قائماً والحاج لا يقدر على الحج ماشياً أو راكباً إلا بمشقة خارجة عن المعتاد فى مثل العمل فهذا هو الذى جاء فيه قوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وجاء فيه مشروعية الرخص.
فصل
إن كانت المشقة تابعة للعمل فمن لم يعمل بالرخصة فعلى وجهين:
أحدهما أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه فى نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد فهذا أمر ليس لهوكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن ولكنه لما دخل فى العمل دخل عليه ذلك فحكمه الإمساك عن ذلك العملوفى مثل هذا جاء قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ ‏"‏[البخارى:الصوم] ‏ونُهِي عليه السلام عَنِ الصَّلَاةِ وَهُوَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ أَوْ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ [مسلم:المساجد] وَقَالَ عليه السلام : "لَا يقضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"[البخارى:الاحكام]
وَفِي الْقُرْآنِ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}[النِّسَاءِ: 43] إلى أشباه ذلك مما نهى عنه.
والثانى أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد ولكن فى العمل مشقة غير معتادة فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة إلا أن هنا وجها ثالثاًوهو أن تكون المشقة غير معتادة لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [الْبَقَرَةِ: 45] فجعلها كبيرة على المكلف واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله صلى الله عيله وسلم فهو الذى كانت قرة عينه فى الصلاة حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا وقام حتى تفطرت قدماه فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته فى هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية.

فصل
الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْخَوْفُ مِنَ الِانْقِطَاعِ مِنَ الطَّرِيقِ، وَبُغْضِ الْعِبَادَةِ و الْخَوْفُ مِنْ إِدْخَالِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حَالِهِ.
وَالثَّانِي: خَوْفُ التَّقْصِيرِ عِنْدَ مُزَاحَمَةِ الْوَظَائِفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَبْدِ مِثْلِ قِيَامِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَفِي الْحَدِيثِ: "عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" [البخاري: كتاب الصوم، باب صوم شعبان]
المسألة السابعة
قد تكون المشقة الداخلة على المكلف لا بسببه ولا بسبب دخوله فى عمل تنشأ عنه فالحكم الشرعى دفعها على الإطلاق بل أذنت الشريعة فى التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع فمن ذلك الإذن فى دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد وفى التداوى عند وقوع الأمراض وفى التوقي من كل مؤذ آدميا كان أو غيره وكون هذا مأذونا فيه معلوم من الدين ضرورة.
المسألة الثامنة

مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها و لكنها ليست من المشقات المعتبرة فى التكليف.
المسألة التاسعة
كما أن المشقة تكون دنيوية كذلك تكون أخروية فإن الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجب أو فعل محرم فهو أشد مشقة باعتبار الشرع من المشقة الدنيوية التى هي غير مخلة بدين واعتبار الدين مقدم على اعتبار النفس وغيرها فى نظر الشرع وكذلك هنا فإذا كان كذلك فلا يوجد حكم شرعى يبيح إدخال المشقة من هذه الجهة.

المسألة العاشرة
المشقة الناشئة من التكليف:
· قد تختص بالمكلف وحده
· وقد تكون عامة له ولغيره
· وقد تكون داخلة على غيره بسببه
ومثال العامة له ولغيره كالوالى المفتقر إليه لكونه ذا كفاية فيما أسند إليه إلا أن الولاية تشغله عن الإنقطاع إلى عبادة الله فإنه إذا لم يقم بذلك عمَّ الفساد والضرر ولحقه من ذلك ما يلحق غيره
ومثال الداخلة على غيره دونه كالقاضي والعالم المفتقر إليهما إلا أن الدخول في الفتيا والقضاء يجرهما إلى ما لا يجوز أو يشغلهما عن مهم ديني أو دنيوي وهما إذا لم يقوما بذلك عم الضرر غيرهما من الناس.
وعلى كل تقدير فالمشقة من حيث هي غير مطلوبة ولا العمل المؤدي إليها مطلوبا كما تقدم بيانه فقد نشأ هنا نظر في تعارض مشقتين فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ لَزِمَ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ لِغَيْرِهِ كما إذا امتنع العالم من العمل بالقضاء، فَيَلْزَمُ أَيْضًا مِنَ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ بتولى القضاء مثلاً فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ فِي نَفْسِهِ من ترك التعبد أو الكسب لعياله ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَصَدَّى النَّظَرُ فِي وَجْهِ اجْتِمَاعِ الْمَصْلَحَتَيْنِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَشَقَّتَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ كأن تكون مشقته من حيث عيش عياله، فتقوم له الأمة بذلك ويقوم لها بوظيفة القضاء أو العلم أو الجندية التي تتضرر بعدمها، وبهذا تجتمع المصلحتان وتنتفي المشقتان. وإن لم يمكن فلا بد من الترجيح فإذا كانت المشقة العامة أعظم اعتبر جانبها وأهمل جانب الخاصة وإن كان بالعكس فالعكس وإن لم يظهر ترجيح فالتوقف.

المسألة الحادية عشرة
المشقة في الأعمال المعتادة مختلفة بإختلاف تلك الأعمال فليست المشقة في الصلاة كالمشقة في الصيام ؛ فكل عمل في نفسه له مشقة معتادة ثم إن الأعمال المعتادة ليست المشقة فيها تجري على وزان واحد فليس القيام إلى الصلاة من النوم أو في شدة البرد كفعله على خلاف ذلك فالمشقة فى العمل الواحد لها طرفان وواسطة:
· طرف أعلى بحيث لو زاد شيئا لخرج عن المعتاد.
· وطرف أدنى بحيث لو نقص شيئا لم يكن ثم مشقة تنسب إلى ذلك العمل.
· وواسطه هى الغالب والأكثر.
فإذا كانت المشقة خارجة عن المعتاد و يحصل بها فساد ديني أو دنيوي ؛ فيجب رفعها وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد فلا يجب رفعها.