لاَ تسُـبُّوا أصْـحَابي ...


بقلم :

الشَّيخ توفيق عمروني حفظه الله




بسم الله الرحمن الرحيم



روى البخاري (3397) ومسلم (4611) عَنْ أَبي سَعيدٍ الخدري قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " لاَ تَسُـبُّوا أَصْـحَابي ، فإنَّ أَحَـدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَـبًا مَا أَدْرَكَ أَحَـدِهُمْ وَلاَ نَصِـيفَهُ "

إنَّ خير النَّاس وأفضلهم بعد الأنبياء عليهم السَّلام هم صحابة رسول الله الأخيار الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيَّه ، ونقل دينه ، وحفظ شريعته ، فكانوا أعمق النَّاس علمًا ، وأبَّرهم قلوبًا ، بذلوا النَّفس والنَّفيس في نصرة النَّبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم ، وإقامة الدِّين ، ورفع راية التَّوحيد ، وتعبيد النَّاس لربِّ العالمين ، فضلُهم عظيم ، وخيرهم كبير ، وهم كما قال صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُ النَّاسِ قَرْني " (1)

قال النَّوويُّ: " اتَّفقَ العُلماءُ على أنَّ خَيرَ القُرونِ قَرنُه، والمرادُ أصحَابه " (2)

كما حَظوا عند ربِّهم الجليلِ بالتَّزكيةِ والإكرامِ والتَّبجيل، فذكرَهُم بأجملِ وأحسنِ الصِّفات في محكَمِ التَّنـزيلِ، وأثْنى علَيْهم بالجمِيل ووَعَدهم بالنَّعيم المقيم، والجنَّات والثَّوابِ الجزيل قال تعالى:﴿ والسَّابِقُونَ الأوَّلُوُنَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَ الأَنْصَارِ والَّذين اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْـتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ [ التوبة:100]

وجاءت أيضًا نصوص السُّنَّة تدلُّ الأمَّة على معرفة قدر هؤلاء الصَّحابة رضي الله عنهم وحفظ أعراضهم وتوقيرهم، وحبِّهم والانتصار لهم، وتجنُّب بغضهِم وسبِّهم وتنقيصِهم، بل علَّق النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " آيَةُ الإِيمانِ حُبُّ الأَنصَارِ، وآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنصَارِ "

وفي الحديث الذي صدَّرنا به المقالةَ نهي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن سبِّ صحابتِـه الكِرام ، والنَّهيُ يقتضِى التَّحريم ، فلا يجوز لمسلمٍ أن يتكلَّمَ في أحدٍ من الصَّحابة بطعنٍ أو غَمزٍ أو لَمزٍ أو تنقيصٍ أو تعريض بتجريحٍ أو قدحٍ في عدالته ودينِه مطلقًا بأيِّ سببٍ من الأسباب ، وبأيِّ صورةٍ منا الصُّورِ، وما حصل منهم من الاقتـتال هم فيه مجتهدون ، المصيبُ منهم مأجورٌ ، والمخطئُ منهم معذور وذنبهُ مغفورٌ ، والطَّاعنُ فيهم مأزورٌ غيرُ مأجور.

قال النَّووي : "وَاعلَمْ أنَّ سَبَّ الصَّحَابَة رضي الله عنهم حَرَام مِنْ فَوَاحِش المُحَرَّمَات سَواء مَنْ لاَبَسَ الفِتَن مِنْهُمْ وَغَيْرَه ، لأِنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فيِ تِلْكَ الحُرُوب ، مُـتَّأوِّلُونَ " (3)

قال الحافظ في الفتح (13/34): " واتَّفَقَ أَهْل السٌّـنَّة عَلَى وُجُوب مَنْع الطَّعْن عَلَى أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَة بِسَبَبٍ مَا وَقَعَ لـهُمْ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ عُرِفَ المُحِقّ مِنْهُمْ ، لأنَّـهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا في تِلْكَ الـحُرُوب إِلاَّ عَنِ اجْتِهَاد وَقَدْ عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْ الـمُخطِئ فيِ الإجْتِهَاد، بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُؤْجَر أَجْرًا وَاحِدًا وَأَنَّ الـمُصِيب يُؤْجَرُ أَجْرَيْنِ " .

والسَّبُّ: هو الكلامُ الذي يفهم به الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يفهم منه السَّبُّ في عقول النَّاس على اختلاف اعتقاداتهم كاللَّعن والتَّقبيح ونحوه (4)

فلا يحلُّ لأحدٍ أن يسب أحدًا من الصَّحابة جميعهم الصِّغار منهم والكبار ، من شهد منهم الوقائع ومن لم يشهد المتقدِّم والمتأخِّر ، كلُّهم سواءٌ في عدمِ جوازِ التَّعريض لـجَنابهم بالسَّبِّ أو التَّنقُّص

ويمكن إجمال حكم سبِّ الصَّحابة في ثلاثة أقسام:

الأول: أن يسبَّهم بما يقتضي كفرَ أكثِرهم وردَّتهم، أو عامَّتهم فسقُوا، فهذا لا ريب في كفره، لأنَّ مقالته تكذيب صريح لنصِّ القرآن الَّذي فيه الثَّناء عليهم والتَّرضِّي عنهم ، وأنَّ لازمه تكفير وتفسيق نقلَة الشَّريعة .

الثاني: أن يسبَّ بعضهم أو أحدًا منهم سـبًّا يطعن في دينه وعدالته باللَّعن والتَّقبيح ، ففي تكفيره قولان لأهل العلم ، والقائلون بعدم كفره أجمعوا على أنَّه فاسق ، لارتكابه كبيرة من كبائر الذُّنوب، يستحقُّ الـتَّعزير والـتَّأديب .

قال الهيتمي: " أجمع القائلون بعدم تكفير من سبِّ الصَّحابة على أنَّهم فسَّاق " (5)

الثَّالث:أنْ يسبَّهم بما لا يقدح في دينهم كالجبن والبخل وقلَّة العلم والذَّكاء وضعف الرأي ، وعدم الزُّهد في الدُّنيا ونحو ذلك ، فهذا لم يكفره العلماء بمجرَّد ذلك ، لكنَّه يستحقُّ الـتَّعزير والـتَّأديب.

كما أنَّهم اتَّفقوا على كفر من رمى عائشة رضي الله عنها بما برَّأها الله منه (6)

فالَّذي يُطلق العَنانَ للِسانِه يَفْري في أعراضهم رضي الله عنهم سبًّا وتجديعًا وتنقيصًا إنَّما يطعن في القرآن الكريم ، لأنَّه ما جاء ذكر الصَّحابة في الكتاب العزيز إلاَّ مدحًا وثناءً وتزكيةً ، قال تعالى :﴿كُنْـتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
[ آل عمران:110] ، واتَّفق العلماء على أنَّ المقصود الأوَّل من هذه الآية هم الصَّحابة رضي الله عنهم .

وقال تعالى :﴿ قُلِ الحَمْدُ للهِ وَسَلَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [ النمل:59] ، قال ابن تيمية: " قال طائفة من السَّلف : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريبَ أنَّهم أفضلُ المصْطَفَين من هذِهِ الأمَّةِ " (7)

وقال تعالى: ﴿ والسَّابِقُونَ الأوَّلُوُنَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَ الأَنْصَارِ والَّذين اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْـتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ [ التوبة:100]

فرضي الله تعالى عن السَّابقين من غير شرط ، ولم يرض عن التَّابعين لهم إلاَّ أن يتَّبعوهم بإحسان ، وهذه الآية من أصرح الأدلَّة على تحريم سبِّ هؤلاء الأصحاب الكرام ، فلم يذكرهم الله تعالى بمثل هذا الثَّناء الجميل وهذا الوعد الجزيل إلاَّ لعلمه أنَّه لن يصدر منهم ما يناقص ذلك أو ما يجلب سخط الرَّبِّ عزَّوجل عليهم ، فدلَّ ذلك على أنَّهم عاشوا وماتوا وهم مرضيٌّ عنهم .

وقال تعالى فيهم:﴿ لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبيِّ وَالمُهَاجِرينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّـبَعُوهُ فيِ سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَريقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِم إنَّه بِهمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ[التوبة:117]

وقال تعالى: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءٌ بَيْنَهُم تَرَاهُمْ رُكَّعَا سُجَّدًا يَـبْتَغُونَ فَضْلاً مّنْ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فيِ وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فيِ الـتَّورَاةِ وَمَثَلُهُمْ فيِ الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـئَهُ فَأزَرَهُ فَاسْـَغْلَظَ فَاسْـتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ مِنْهُمْ مَّغْفِرَةً وَأَجرًا عَظِيمَا [ الذاريات:29]

قال الإمامُ مالك رحمه الله: " من أصبحَ قلبِه غَيظٌ عَلى أحَدٍ مِنْ أصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصَابَتْه الآية " (8)

قال القرطبيُّ رحمه الله معلِّقا عليه : " قلتُ : لقد أحسنَ مالكٌ في مقالته وأصابَ في تأويله ، فمن نَقص وَاحدًا منهم أو طَعن عليه في روايـتِه فقد ردَّ على الله رَبِّ العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين " (9)

ومع هذه الآيات كلِّها وغيرها كثير مما لم أورده خشية الإطالة يقفُ هؤلاء الشِّيعةُ الرَّوافضُ في وجهها رادِّين لـمُحتواها ، مخالفينَ لمقتضاها ، يزعمون وبئس ما زعموا أنَّ هذا المدحَ والثَّناء عليهم كان قبلَ رِدَّتهم فيُقال لهم : وهل يُثني اللهُ تعالى كلَّ هذا الثَّناء ويزكِّى كلَّ هذه الـتَّزكية من سَبق في علمه أنَّه سيرتَدُ قبل موته ؟

ولكن كما قال تعالى:﴿ فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتي فيِ الصُّدُورِ [الحج:46]

لأجل هذا كان سابُّ الصَّحابةِ رضي الله عنهم على شفا هَلَكَة وخَطَرٍ عَظيمٍ، ومتنكبٍ لصراط الله المستقيم ، لأنَّ صنيعَه يُنبئُ عن سُوء الطَّويةِ وخُبث السَّريرة ، ففي كتاب السُّنَّة للخلال (695) أنَّ الإمام أحمد سُئل عن رجل انتقص معاوية وعمْرو ابن العاص ، أيقال له : رافضيُّ ؟ فقال : " إنَّه لم يجترئ عليهما إلاَّ وله خَبيـئَةُ سُوءٍ ، ما انتقَصَ أحَدٌ أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ لَهُ دَاخِلَةُ سُوءٍ "

وقال أبو نعيم الأصفهاني في كتابه الإمامة والرَّد على الرَّافضة (ص:376): " فمن سبَّهم وأبغضَهم وحملَ ما كانَ من تأويِلهم وحُروبِهم على غيرِ الجميل الحَسنِ، فهو العَادِلُ عَن أمرِ الله تعالى وتأديِـبَه ووَصِيَّته فيهم ، ولا يبسُط لسانَه فيهم إلاَّ مِن سُوء طويَّـته في النَّبي صلى الله عليه وسلم وصَحابـتِه والإسلامِ المسلِمين "

وقال الإمام أحمد: " إذا رأيتَ أحدًا يذكُر أصحابَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بسُوءٍ فاتَّهمْهُ على الإسلام " (10)

فالطَّعن في الصَّحابة رضي الله عنهم إنَّما طعنٌ في الله ورسوله وشريعته ، فيكون طعنًا في الله، لأنَّه طعنٌ في حكمتِه واختيارِه ، حيثُ اختار لأفضل خلقِه صلى الله عليه وسلم أسوأَ خلقه تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا وطعنًا في النَّبي صلى الله عليه وسلم لأنَّهم أصحابُه، والمرءُ على دينِ خليـلِه ، والإنسان يُعرف صلاحُه أو فسادهُ بقرينِه ، وطعنًا في الشَّريعة، لأنَّهم الواسطةُ بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في نقلِ الشَّريعة ، لأنَّ الطَّعنَ في النَّاقلِ طعنٌ في المنقُولِ.

لأجل هذا كلِّه استوجبَ سابُّ الصَّحابة اللَّعنَ على نفسِه، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ سَبَّ أصْحَابي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالملاَئِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِين" (11)

والصحابيُّ: كما عرّفه العلماء المحقِّقون: " هو كلُّ من لَقيَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مؤمنًا بهِ، وماتَ على الإسلاَمِ " (12)

فالصُّحبةُ مَرتبةٌ شريفةٌ ومَنزلةٌ مُنيفَةٌ تتحَقَّقُ بمجرَّدِ رُؤيَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مرَّةً واحدةً ، فهذا اللِّقاء الواحدُ كافٍ في أن يُدخِل صاحبَه في عِداد الصَّحابة رضي الله عنهم ، قال ابن تيمية رحمه الله : " كُلُّ مَنْ رَأَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا بِه فَلَهُ مِنْ الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ "

ففي الصَّحيحين عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
"
يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ ، فَيُقَالُ لـهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ، فَيُفْتَحُ لـهُمْ ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ ، فَيُقَالُ لـهُمْ : فِيكُمْ مَنْ رَأَى صَحِبَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ ، فَيُفْتَحُ لـهُمْ ، ثًُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاس ، فَيُقَالُ لـهُمْ :هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ ، فَيُفْتَحُ لـهُمْ "

فربط حصول الفتح للمسلمين بسبب أنَّ جيشَهم يحوى في صفوفِه من رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، وهذا من أقوى ما يستدلُّ به على شرف الرُّؤية وفضلها، وأنَّ بمجرَّد هذه الرُّؤية تَثْبُتُ الصُّحبة، ففي الأوَّل قال: " فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟ " ثمَّ يقال لمن بعدهم : " فِيكُمْ مَنْ رَأَى صَحِبَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟ " فأثبت لهم الصُّحبة بمجرَّد الرُّؤية.

قال النَّوويُّ: " الصَّحيح الَّذي عَلَيْهِ الجُمهُور أنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ رَأَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولَوْ سَاعَةً فَهُوَ مِنْ أَصْحَابه " (13)

وعلى هذا جرى عملُ المحقِّقين من أئمَّةِ الحديثِ وأساطين الجرحِ والـتَّعديل يحرصون أشدَّ الحرصِ على من ثبتَت رؤيتُه للـنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أن يحلُّوا ترجمتَه بقولهم : " لهُ رُؤيةٌ " فيكون بذلك صحابيًّا ، ومعنى ذلك أنَّهم كُفُوا مُؤنةَ البحث عن عدالته ، لثبوت عدالتهم رضي الله عنهم بالكتاب والسُّنَّة والإجماع وصحيح النَّظر ، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/17): " واتَّفق أهلُ السٌّنَّة على أنّ الجَميع عُدُولٌ ، ولمْ يخَالِفْ في ذلك إلاَّ شُذوذٌ منَ الـمُبْتَدِعَة ".

إلاَّ أنَّه ينبغي التَّنبيه إلى أنَّ تعديلهم رضي الله عنهم مطلقًا لا يعنى عصمتهم ، بل يجوز عليهم الذُّنوب في الجملة ، وقد يصدر منهم الخطأ في الاجتهاد لكن ذلك لا يقدح في عدالتهم ولا يُنْقِصُهَا ، لـمُضِيِّ ثناء الله سبحانه عليهم مطلقًا ، لأنَّ بحرَ حَسناتهم غمر جميع ذلك ، قال ابن تيمية : " ولهم من السَّوابقِ والفضائل ما يُوجب مغفرةَ ما يَصدُرُ منهم إن صَدر حتَّى إنَّه يُغفرُ لـهُم من السَّـيِّئات ما لا يُغفر لمن بَعدَهم ، لأنَّ لهم من الحسناتِ التي تمحُو السَّـيِّئات ما ليسَ لمنْ بعدَهم " (14)

1- ومما يستفاد من هذا الحديث أنَّ الصُّحبة تتفاوت وتتفاضل (15) ، لأنَّه ثبت عند مسلم زيادة فيها سبب ورود الحديث ، وهو أنَّه كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ شَئ فَسَبَّه خَالِدٌ ، فقال صلى الله عليه وسلم لخالد ابن الوليد رضي الله عنه : " لاَ تَسُـبُّوا أَصْحَابي "

، وقوله هذا ليس القصدُ منه نفي الصُّحبة عنه ، وإنَّما أراد أن يُـبيِّن أنَّ عبد الرَّحمن بن عوف رضي الله عنه وأمثالَه أخصُّ بصحبتِه صلى الله عليه وسلم ، وأنَّهم امتَازوا بأشياء لا يُمكن أن يُشاركَهم غيرُهم فيها كفَضلِ السَّبْق والهجرة والإنفاق وغير ذلك .

فعبد الرَّحمن بن عوف رضي الله عنه مـمَّن أسلم وهاجر قديمًا وأحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة ، أمَّا خالد بن الوليد رضي الله عنه وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة فهؤلاء أسلموا في مدَّة الهدنة بعد الحدبية وقبل فتح مكَّة ، فكانوا من المهاجرين التَّابعين لا من المهاجرين الأوَّلين .

ومن هنا نعلم أنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم يتفاضَلُون في صُحبتهم، فصحبة أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه ليست كصحبة غيرِه ، إذ هو في ذَروة سنام الصُّحبة وأعلى مراتبها ، بل تميَّز وانفرد رضي الله عنه عن سائر الصَّحابة، حتَّى خصَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله : " فهَلْ أنتُم تَارِكُوا لي صَاحِبي " (16) ، ووصفه الله تعالى بذلك في قوله: ﴿ ثَانِي اثْـنَيْنِ إِذْ هُمَا فيِ الغَارِ إِذْْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا الآية [التوبة :40]، كما أنَّ صحبة الَّذين أسلموا قبل الفتح وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ليسوا في الرُّتبة كالَّذين تأخَّر إسلامهم ولم يسلموا إلاَّ بعد الفتح وكلاَّ وعد الله الحسنى ، كما قال تعالى :﴿ لاَ يَسْـتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِن قَـبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِن الَّذِينَ أنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا أوَ كُلاَ وَعَدَ اللهُ الحُسْـنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد:10]

2- ومن فوائد الحديث أنَّ منزلةَ الصُّحبة لا يَعْدِلها شئٌ ، لذا كان صاحبُها سابقًا لمن بعدَه ولو كان أكثرَ منهُ عمَلاً ، قال النَّوويُّ: " وَفَضِيلَة الصُّحْـبَة ، وَلَوْ لَحْظَة لاَ يُوَازِيها عَمَل ، وَلاَ تُنَال دَرَجَتُهَا بِشَئ، والفَضَائِل لاَ تُؤْخَذ بِقِيَاسٍ ، ذَلِكَ فَضْل الله يُؤْتيه مَنْ يَشَاء " (17)

وقال ابن تيمية : " قال غير واحد من الأئمة إنَّ كلَّ من صحِبَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مـمَّن لم يَصحبه مطلقًا ، وعيَّنوا ذلكَ في مِثل مُعاويةَ وعُمر بن عَبد العزيز مع أنَّهم معترفون بأنَّ سِيرةَ عُمر بن عبد العزيز أعدلُ من سِيرة مُعاوية، قالوا : لكن ما حصَل لهم بالصُّحبَة من الدَّرجة أمرٌ لا يُساويهِ ما يحصُل لغيرهم بعِلمه " (18)

ولذلك ردَّ السَّلفُ رحمهم الله على من أرادَ أن يَعقِدَ المفاضلَةَ بينَ الصَّحابيَّ وغيرِه ممَّن تأخَّر عنهُ بكلمَة قويَّةٍ حاسِمةٍ صدع بها سيِّدُ عُلماء زمانِه عبد الله ابن المبارك رحمه الله الَّذي كان يقولُ:

" ترابٌ في أنفِ معاويةَ أفضلُ من عُمر بنِ عبدِ العزيز " (19)

فالعبدُ لو لَقَيَ الله بكلِّ عمل من أعمال البرّ والخير الَّتي في وسع البشر أن يأتوا بها ، فإنَّه لن يستطيعَ أن يـبلغَ رتبةَ الصَّحابي ولا يُدانيه أبدًا ، لأجل هذا عقَد النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذِه المقارَنة التي فيها تفاوت عظيم وتباين كبير ، إذ لا يختلف اثنان في أنَّ من أنفق مثل جبل أحد ذهبًا عُدَّ عملُه جليلاً وإنفاقُه عظيمًا ،إلاَّ أنَّه مع هذا كلِّه لن يـبلُغَ في الثَّواب ما أنفقَهُ صحابيٌّ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدار مُدَّ أو نصفَ مدٍّ من الحنظة أو الشَّعير ،قال ابن حزم : " هذا في الصَّحابة فيما بينهم، فكيفَ بمنْ بعدَهُم معَهُم رضي الله عنهم أجمعين " (20) ، وسبب تفضيل نفقتهم على من بعدهم كما قال النَّووي رحمه الله : " أنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْت الضَّرورَة وَضِيق الْحَال، بخِلاَفِ غَيْرِهمْ ، ولأَنَّ إنْفَاقهمْ كَانَ نُصْرَته صلى الله عليه وسلم وَ حِمَايَته، وذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْدَه ، وكَذَا جِهَادهمْ وَ سَائِر طاَعَتهمْ " (21)

وكان ابن عمر يقول: " لا تَسُـبُّوا أصحابَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَلَمُقَامُ أحدِهم ساعةً خيرٌ من عَمل أحدِكُم عُمرَهُ " (22)

ومن الفوائد التي يمكن استفادتها من هذا الحديث النَّبويِّ: أنَّه يجب الانتصار للصَّحابة الأبرار، والذَّبِّ عن أعراضهم، وعدم السُّكوت على من تعرَّض لهم، فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يتوانَ أبدًا في الدِّفاع عنهم وأطلقها مدويَّـةً صريحةً ناهيًا عن التَّعرض لهم بأدنى سوء فقال :

" لاَ تَسُـبُّوا أَصْـحَابي " وفي لفط عند مسلم : " لاَ تَسُـبُّوا أَحَـدًا مِنْ أَصْـحَابِي " .

وعليه – أخي القارئ – ينبغي علينا أن نعمرُ أفئدتنا بحبِّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن تلهج ألستنا بالثَّناء عليهم ومدحهم والـتَّرضي عنهم ،أن نعرف مآثرهم ومناقبَهم وفضائلهم (23) ، ونَنْشُرَ ذلك بين النَّاس حتَّى لا تجدَ شُبهاتُ الطَّاعنين فيهم والخائضين في أعراضهم والـمُشَكَّكين في عدَالتهم سَبيلاً إلى العقولِ، فإنَّنا نرى اليوم كثيرًا من العوام والمثَّقفين وحتَّى بعض المنتسبين للدَّعوة إلى الله قد التبس عليهم أمر الشِّيعة الرَّوافض واغتَّروا بهم وأقبلوا على مدحهم والثَّناء عليهم والانتصار لهم ، ولم يـبالوا بهذا الخلاف الجوهري الَّذي بيننا وبينهم ، ولو تريَّـثوا قليلاً ، وفكروا ملـيًّا ، وتركوا العواطف جانبًا ، وألقوا نظرةً في أصول دين الشِّيعة لوجدوا أنَّ كتبهم المعتمدة مثل : " الكافي" و " بحار الأنوار "
"رجال الكشي "
و قد شحنت ومُلِئت بالسَّبِّ والطَّعن واللَّعن والتَّكفير والتَّكذيب للصَّحابة الكرام ولم يستـثنوا منهم إلاَّ نزرًا يسيرًا جدًّا ، وبقدر صُحبة الرَّجل وقُربه من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يكون عداؤهم له أشدَّ ، ولعنهم له أكثر ، فأبغض النَّاس إليهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأيُّ إسلامِ هذا الذي يريدون نُصرته، وهُم يَلعنُونَ خِيرةَ أهلِه ويسبُّون صفَوته

وصدقَ محمَّد بن سِيرين رحمه الله لما قال: " مَا أَظُنُّ رَجُلاً يَنْـتَقِصُ أَبَا بَكْرٍ وَ عُمَرَ يُحِبُّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم " (24)

فكن على حذر من الوقوع في الاغترار بهم، وارفع شعارَ الحبِّ والولاءِ والانتصارِ لهؤلاء الصَّحابة الأخيارِ، فإنَّه من خَير الزَّاد ليوم المعَادِ ، وحبِّبْهم إلى جميع النَّاس ومن تحت يدك مِنَ الأهلِ والأولادِ ، قال الإمام مالك : " كان السَّلف يعلِّمون أولادهم حبَّ أبي بكر وعمر ،كما يعلِّمون السُّورةَ من القرآن " (25) ، وتمسَّك بغَرْزِ أهل السُّنَّة والجماعة الَّذين سَلِمت قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما وصفهم الله تعالى في قوله :﴿ وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدَهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنـَا وَلإخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فيِ قُلُوبِـنَا غِلاًّ لِلَّذينَ ءَامَنُوا رَبنآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [ الحشر:10] ، وإيَّاك أن تقف إلى جانب من خالفوا أمر الله ، الذين قالت فيهم عائشة رضي الله عنها :
"
أُمِروُا أنْ يَسْـتَغِفُروا لأصحاب رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَسَـبُّوهُم " (26).

وفي الأخير ، إليك - أخي القارئ – كلمتين لعالمين جليلين أحدهما مغربيٌّ مالكيٌّ ، والثَّاني مشرقيٌّ حنفيٌّ ، لبيان ما تقرَّر عند أهل السُّنَّة والجماعة في هذا الأصل العظيم ، قال ابن أبي زيد القيرواني في الرِّسالة (ص:32) : " وأن لا يُذكرَ أحدٌ من صَحابةِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم إلاَّ بأحسنِ ذكرٍ، والإمساكُ عمَّا شجَر بينُهم ، وأنَّهم أحقُّ النَّاس أن يُلتَمسَ لهم أحسنُ المخَارجِ، ويُظَنَّ بهم أحسنَ المذاهبِ " .

وقال الطَّحاوي في عقيدته : " ونُحبُّ أصحابَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نُفَرِّط في حُبِّ منهُم ، ولا نتبرَّأ منْ أحدٍ منهُم ، ونُبغِضُ من يُـبغِضُهم ، وبغيرِ الخَيرِ يَذكُرُهم ، ولا نذكُرهُم إلاَّ بخيرٍ ، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ ، وبُغضُـهُم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ " .


==================================

(1): رواه البخاري (2458، 5949)، ومسلم (4601)

(2): شرح صحيح مسلم (16/94)

(3): شرح صحيح مسلم (16/93)

(4): الصارم الـمسلول (3/1041)

(5): الصواعق الـمحرقة (ص:383)

(6): انظر الصَّارم الـمسلول (3/1110، 1113)

(7): منهاج السُّـنَّة (1/156)

(8): حلية الأولياء (6/327)

(9): الجامع لأحكام القرآن (12/298)

(10): شرح أصول الاعتقاد للاَّلكائي (2359)

(11): أخرجه الطبراني في الكبير (12/142) ، وحسَّنه الألباني بمجموع طرقه في الصَّحيحة (2340)

(12): الإصابة في تـمييز الصَّحابة (1/6)

(13): شرح صحيح مسلم (16/85)

(14): العقيدة الواسطية (ص:44)

(15): انظر منهاج السنة (8/302، 431)

(16): رواه البخاري (3388)

(17): شرح صحيح مسلم (16/93)

(18): مجموع الفتاوى (4/527)

(19): تاريخ دمشق (59/207)

(20): الفصل في الملل (4/92)

(21): شرح صحيح مسلم (16/93)

(22): رواه ابن ماجه (158)، وحسَّنه الألباني

(23): ومن أجمع الكتب في ذلك كتاب فضائل الصَّحابة للإمام أحمد

(24): رواه الترمذي (3685)، وصحَّح إسناده الألباني

(25): شرح أصول الاعتقاد للاَّلكائي (1889)

(26): رواه مسلم (5344).



المـصدر: العـدد الـثَّالث / مجلَّة الإصلاح - الجزائر

__________________
كانَ ابنُ المبارَك يقولُ: «يَا ابْنَ المبارك! إِذَا عَرَفْتَ نَفْسَكَ، لَمْ يَضُرَّكَ مَا قِيلَ فِيكَ»