بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

الرجاء
د. نهى قاطرجي

لم أخطط للحديث عن الرجاء عندما كتبت عن الخوف ، إلا أنني وجدت بعد الانتهاء من الكتابة أن الحديث عن الخوف لا يستكمل بنوده إذا لم يبحث موضوع الرجاء ، وذلك خشية الوقوع في التعسير الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ) ، رواه البخاري .

كما أن الخوف من الله عز وجل ورجاء ورحمته أمران متلازمان في عدة نواح منها :
1- اسم الرجاء غالباً ما يرد مقروناً بالخوف أو بأحد معانيه ، وهذا القِران ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربك كان محذوراً } الإسراء ، 57.
كما ورد أيضاً في السنة الشريفة ، حيث ذُكر أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في سياق الموت ، ( فقال : " كيف تجدك ؟ " فقال : أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يجتمعان في قلب عبد ، في مثل هذا الموطن ، إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف " ) رواه ابن ماجه .
2- اسم الرجاء قد يطلق في بعض الأحيان ويُراد به الخوف كما ورد في قوله تعالى : {ما لكم لا ترجون لله وقاراً } نوح ، 13. أي لا تخافون لله عظمة .
ولهذا لم يفرق الحارث المحاسبي في تعريفه للرجاء بينه وبين الخوف فكان مما قال : الرجاء هو " أن ترجو قبول الأعمال ، وجزيل الثواب عليها ، وتخاف مع ذلك أن يرد عليك عملك ، أو يكون قد دخلته آفة أفسدته عليه " .
معنى الرجاء ودلائله
جاء في معنى الرجاء أنه : " حسن الظن بالله تعالى في قبول طاعة وُفِّقت لها أو مغفرة سيئة تُبت منها " .
ومن هذا التعريف يمكن الاستنتاج أن رجاء رحمة الله لا يكون مع ترك الطاعات وعدم الالتزام بالنواهي ، فإن هذا يسمى اغتراراً والله تعالى يقول :{ يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور }، فاطر 5.
كما أن الله سبحانه وتعالى سمى من يقوم بهذا الفعل بالخَلف ، والخَلف اسمٌ يطلق على الرديء من الناس ، قال تعالى :{ فخلف من بعدهم خَلفٌ ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا يعقلون } ، الأعراف ، 169.
أما دلائل وجوب رجاء رحمة الله عز وجل فقد وردت في القرآن والسُّنة وأحاديث الصحابة والصالحين ، قال تعالى :{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } ، الزمر ، 53 .
وقد ذم الله عز وجل اليأس والقنوط من رحمته فقال تعالى :{ إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون }، يوسف 87.
وقد جاء في أخبار النبي يعقوب عليه السلام " أن الله تعالى أوحى إليه : أتدري لم فرقت بينك وبين يوسف عليه السلام هذه المدة ؟ قال : لا ، قال لقولك لاخوته : { أخاف أن يأكله الذئب وأنتم غافلون } لم خِفت الذئب عليه ولم ترجني له ، ولم نظرت إلى غفلة اخوته ولم تنظر إلى حفظي له ؟ ومِن سِبْقِ عنايتي بك أني جعلت نفسي عندك أرحم الراحمين فرجوتني ، ولولا ذلك لكنت أجعل نفسي عندك أبخل الباخلين " .
أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءت لتؤكد على سعة رحمة الله عز وجل، فقال عليه الصلاة والسلام : ( لما خلق الله الخلق كتب ، وهو يكتب على نفسه وهو وضعٌ عنده على العرش إن رحمتي تغلب غضبي ) ، رواه البخاري .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( جعل الله الرحمة في مائة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً ، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق ، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ) ، رواه البخاري .
أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد كان لاستيعابهم القوي لمعاني صفات الله عز وجل- والتي منها صفة الرحمة- أثره في أقوالهم وأفعالهم ، فها هو التابعي الجليل أبو سفيان الثوري يفضّل رحمة الله عز وجل على رحمة أبويه فقال : " ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبويّ ، لأني أعلم أن الله تبارك وتعالى أرحم بي منهما " .
وها هو الفضيل بن عياض ينظر في يوم عرفة إلى المؤمنين وهم واقفون يبكون ويتضرعون ، "فقال لرجل إلى جانبه : أرأيت أن هؤلاء كلهم واقفون على باب رجل من الأغنياء يطلبون دانقاً (الدانق : سدس الدرهم ) أكان يردّهم ؟ فقال : لا ، قال : فإن المغفرة عند الله تعالى أهون من دانق عند أحدكم" .

نتائج الرجاء ودواؤه
إن نتائج الرجاء لا تختلف عن نتائج الخوف ، إذ أنهما يؤديان إلى العمل والسعي لمرضات الله بالعبادات والطاعات وفعل الخيرات ، قال تعالى في وصف أفعال الراجين :{ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم } البقرة ، 218.
وقال أيضاً :{ أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب } ، الزمر ، 9 .
ولهذا كما اتفقت نتائج الرجاء والخوف اتفق الدواء بينهما ، بمعنى آخر أن العلماء عالجوا هذين النوعين علاجاً مترابطاً فداووا الخوف بالرجاء وداووا الرجاء بالخوف ، قال لقمان لابنه : "يا بني خف الله تعالى خوفاً لا تيأس فيه من رحمته وارجه رجاءً لا تأمن فيه مكره ، ثم فسره مجملاً فقال : المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر " .
ويكون الخوف كدواء وعلاج أفضل في حالة الشخص الذي يأمن مكر الله عز وجل ، فالله سبحانه وتعالى يقول : { أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون }، الأعراف ، 99 .
ويكون الرجاء كدواء أفضل عند من غلب على قلبه اليأس والقنوط من رحمة الله قال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم " ، الزمر ، 53.
إلا أن أفضل لحظات الرجاء هي لحظة احتضار الموت ، حيث يواسى المحتضر بالآيات والأحاديث التي تدل على سعة رحمة الله عز جل ، ومن هذه الأحاديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النار : ( لا يدخل الجنة رجل في قلبه مثقال حبة من خردل من كِبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان ) ، رواه أبو داود .
اللهم اجعلنا ممن يرجون رحمتك ويخافون عذابك ، اللهم آمين .
صيد الفوائد

فصل منزلة الرجاء

[ ص: 36 ] ومن منازل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) منزلة الرجاء .

قال الله تعالى : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) فابتغاء الوسيلة إليه : طلب القرب منه بالعبودية والمحبة . فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه : الحب ، والخوف ، والرجاء . قال تعالى : ( من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت ) ، وقال : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) ، وقال تعالى : ( أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ) .

وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - قبل موته بثلاث - : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء .

" الرجاء " حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب . وهو الله والدار الآخرة . ويطيب لها السير .

وقيل : هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى . والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه .

[ ص: 37 ] وقيل : هو الثقة بجود الرب تعالى .

والفرق بينه وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل . ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد . و " الرجاء " يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل .

فالأول كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها .

والثاني كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها . ويرجو طلوع الزرع .

ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل .

قال شاه الكرماني : علامة صحة الرجاء حسن الطاعة .

والرجاء ثلاثة أنواع : نوعان محمودان ، ونوع غرور مذموم .

فالأولان رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله . فهو راج لثوابه . ورجل أذنب ذنوبا ثم تاب منها . فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه .

والثالث : رجل متماد في التفريط والخطايا . يرجو رحمة الله بلا عمل . فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب .

وللسالك نظران : نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله ، يفتح عليه باب الخوف إلى سعة فضل ربه وكرمه وبره . ونظر يفتح عليه باب الرجاء .

ولهذا قيل في حد الرجاء : هو النظر إلى سعة رحمة الله .

وقال أبو علي الروذباري : الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه . وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص . وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت .

[ ص: 38 ] وسئل أحمد بن عاصم : ما علامة الرجاء في العبد ؟ فقال : أن يكون إذا أحاط به الإحسان ألهم الشكر ، راجيا لتمام النعمة من الله عليه في الدنيا والآخرة ، وتمام عفوه عنه في الآخرة .

واختلفوا ، أي الرجائين أكمل : رجاء المحسن ثواب إحسانه . أو رجاء المسيء التائب مغفرة ربه وعفوه ؟ .

فطائفة رجحت رجاء المحسن . لقوة أسباب الرجاء معه . وطائفة رجحت رجاء المذنب ؛ لأن رجاءه مجرد عن علة رؤية العمل ، مقرون بذلة رؤية الذنب .

قال يحيى بن معاذ : يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال ؛ لأني أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص ، وكيف أصفيها وأحرزها ؟ وأنا بالآفات معروف . وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك ، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف ؟ .

وقال أيضا : إلهي ، أحلى العطايا في قلبي رجاؤك . وأعذب الكلام على لساني ثناؤك . وأحب الساعات إلي ساعة يكون فيها لقاؤك .

قال صاحب " المنازل " :

الرجاء على ثلاث درجات : الدرجة الأولى : رجاء يبعث العامل على الاجتهاد . ويولد التلذذ بالخدمة ، ويوقظ الطباع للسماحة بترك المناهي .

[ ص: 53 ] أي ينشطه لبذل جهده لما يرجوه من ثواب ربه . فإن من عرف قدر مطلوبه هان عليه ما يبذل فيه .

وأما توليده للتلذذ بالخدمة فإنه كلما طالع قلبه ثمرتها وحسن عاقبتها التذ بها . وهذا كحال من يرجو الأرباح العظيمة في سفره ، ويقاسي مشاق السفر لأجلها . فكلما صورها لقلبه هانت عليه تلك المشاق والتذ بها . وكذلك المحب الصادق الساعي في مراضي محبوبه الشاقة عليه ، كلما تأمل ثمرة رضاه عنه وقبوله سعيه ، وقربه منه تلذذ بتلك المساعي ، وكلما قوي علم العبد بإفضاء ذلك السبب إلى المسبب المطلوب ، وقوي علمه بقدر المسبب وقرب السبب منه ازداد التذاذا بتعاطيه .

وأما إيقاظ الطباع للسماحة بترك المناهي : فإن الطباع لها معلوم ورسوم تتقاضاها من العبد . ولا تسمح له بتركها إلا بعوض هو أحب إليها من معلومها ورسومها ، وأجل عندها منه وأنفع لها . فإذا قوي تعلق الرجاء بهذا العوض الأفضل الأشرف سمحت الطباع بترك تلك الرسوم وذلك المعلوم . فإن النفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليها منه . أو حذرا من مخوف هو أعظم مفسدة لها من حصول مصلحتها بذلك المحبوب . وفي الحقيقة ففرارها من ذلك المخوف إيثار لضده المحبوب لها . فما تركت محبوبا إلا لما هو أحب إليها منه . فإن من قدم إليه طعام لذيذ يضره ويوجب له السقم . فإنما يتركه محبة للعافية التي هي أحب إليه من ذلك الطعام .

قال : الدرجة الثانية رجاء أرباب الرياضات أن يبلغوا موقفا تصفو فيه هممهم ، برفض الملذوذات ، ولزوم شروط العلم ، واستقصاء حدود الحمية .

أرباب الرياضات : هم المجاهدون لأنفسهم بترك مألوفاتها ، والاستبدال بها مألوفات هي خير منها وأكمل ، فرجاؤهم أن يبلغوا مقصودهم بصفاء الوقت ، والهمة من تعلقها بالملذوذات . وتجريد الهم عن الالتفات إليها . وبلزوم شروط العلم . وهو الوقوف عند حدود الأحكام الدينية . فإن رجاءهم متعلق بحصول ذلك لهم ، واستقصاء حدود الحمية .

و " الحمية " العصمة والامتناع من تناول ما يخشى ضرره آجلا أو عاجلا . وله حدود متى خرج العبد عنها انتقض عليه مطلوبه ، والوقوف على حدودها بلزوم شروط العلم .

والاستقصاء في تلك الحدود بأمرين : بذل الجهد في معرفتها علما ، وأخذ النفس [ ص: 54 ] بالوقوف عندها طلبا وقصدا .
قال : الدرجة الثالثة : رجاء أرباب القلوب . وهو رجاء لقاء الخالق الباعث على الاشتياق ، المبغض المنغص للعيش ، المزهد في الخلق .

هذا الرجاء أفضل أنواع الرجاء وأعلاها ، قال الله تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) ، وقال تعالى : ( من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت ) .

وهذا الرجاء هو محض الإيمان وزبدته ، وإليه شخصت أبصار المشتاقين . ولذلك سلاهم الله تعالى بإتيان أجل لقائه . وضرب لهم أجلا يسكن نفوسهم ويطمئنها .

والاشتياق هو سفر القلب في طلب محبوبه .

واختلف المحبون : هل يبقى عند لقاء المحبوب أم يزول ؟ على قولين .

فقالت طائفة : يزول ؛ لأنه إنما يكون مع الغيبة . وهو سفر القلب إلى المحبوب . فإذا انتهى السفر ، واجتمع بمحبوبه ، وضع عصا الاشتياق عن عاتقه . وصار الاشتياق أنسا به ولذة بقربه .

وقالت طائفة : بل يزيد ولا يزول باللقاء .

قالوا : لأن الحب يقوى بمشاهدة جمال المحبوب أضعاف ما كان حال غيبته . وإنما يواري سلطانه فناءه ودهشته بمعاينة محبوبه ، حتى إذا توارى عنه ظهر سلطان شوقه إليه ، ولهذا قيل :


وأعظم ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيام

الشبكة الإسلامية