يطالع الكثير منا سير أصحاب رسول الله وتابعيهم وتابعي تابعيهم بإحسان، فينذهل وايم الله من قوة اتصالهم بكتاب الله جل وعلا، ويتساءل :كيف تيسر لهؤلاء البشر تحصيل هذه المقامات العلية والمراتب الزكية؟؟
الجواب قد يبدو بسيطا وبديهيا:إنهم هاجروا إلى القرآن ، وعرفوا الطريق إلى القرآن.
عرفوا السبيل إلى القرآن حين تحققت قلوبهم بعظمته، وأنه الفصل ليس بالهزل، وهو كلام رب العالمين.
هاجروا إلى القرآن لما رباهم سيد ولد آدم ،بأبي وروحي وكلي هو ، على السمع والطاعة لأوامر القرآن. وتحليل حلاله وتحريم حرامه.
يجد المهاجر إلى القرآن نفسه أمام جيل قرآني فريد، جيل كانوا رجالا بالقرآن ، لم تلههم تجارة ولا بيع عن القرآن ، صدقوا ما عاهدوا الله عليه بالقرآن، أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، أمروا بالمعروف ، نهوا عن المنكر بالقرآن. تفطرت أقدامهم من القيام بالقرآن، خشعت جوارحهم، وعمشت أبصارهم بالقرآن.
جيل حديثهم القرآن، وحركاتهم وسكناتهم بالقرآن وفي القرآن وللقرآن.
والسؤال الملح : كيف نهاجر ونعرف الطريق إلى القرآن، كما هاجروا وعرفوا؟؟
لاشك إن الإجابة عنه شاقة ومجهدة للعقل والروح، وذلك الإجهاد مرده إلى أن القول والتخطيط والتنظير يحسنه غالب الناس، والقول يحتاج إلى تجميله بحسن العمل، وظلُّ العمل المجاهدة وشدة البلاء والمحن، وهو الفيصل بين الذين يؤمنون بالغيبوالذينفي قلوبهم مرض.
الهجرة إلى القرآن أحبتي تحتاج فطرة مصفاة منقاة من درن جاهلية المادة، وجاهلية الكبر، وجاهلية النفاق، وجاهلية حب الرياسة والجاه، وجاهلية النفس الأمارة بالسوء، وجاهلية اتباع الهوى، وجاهلية عبادة الله بالهوى ، هي جاهليات كثيرة، وبقدر تكسيرها تهون الهجرة إلى القرآن.
الهجرة إلى القرآن تحتاج إلى قلب معمور بالتوحيد النقي الصافي العملي لا المتون المحفوظة والمناظرات والجدالات السامجة العقيمة.التوحيد الذي لا تقلب صفحة من صفحات كتاب الله إلا وجدتها داعية إليه.
الطريق إلى القرآن تحتاج إلى إعداد العدة والتزود بزاد التوبة المتجددة والاستغفار المتواصل، والمحاسبة الشديدة للنفس؛التوبة من تعظيمنا المجمل لكتاب الله، ومن تقصيرنا في تلاوته وتدبره.
الهجرة إلى القرآن بدايتها أشواك وأودية وجبال شاهقات وعرة، لكن نهايتها نور عظيم يسري في القلب ويعرج بالروح إلى الحضرة الرحمانية ويصلها بالذي على العرش استوى. نور يبصر به السالك كل شيء على حقيقته، نور يعيش به جنة الدنيا.
الهجرة إلى القرآن أحبتي لا تتحقق إلا بجعل هذا الكتاب هم الهموم، وآكد المهمات، ورأس المشاريع، وأنه لا غنى للعبد عنه ألبتة.
المهاجر إلى القرآن لابد له من اجتياز مراحل ثلاثة:
١ مرحلة التعرف على القرآن، وسهولة تجاوزها تكون بقدر استعداد القلب لتحمل مسؤولية القرآن، وأهم ركائزها الوصول بالقلب إلى إدراك حقيقة كلام الله، في إعجازه وعظمته، وأنه كلام رب واحد عظيم جبار خالق متصف بصفات الكمال كلها.كلام تقشعر له الجلود وتخر له الجبال وتنهد وتتصدع؛ وكلما استغرق فكره هذه المعاني أحس بسكينة تسري في قلبه، وأحس بأن ذرات جسمه كلها تتمنى لو تعمل بهذا القرآن.
٢مرحلة عمل ومكابدة ومجاهدة بغية الثبات على طريق القرآن؛ هذه المرحلة يحتاج فيها القرآني الرباني إلى تعاني الحفظ وكثرة التلاوة والتدبر، والتهجد والمراجعة والتعاهد؛ كذلك النظر في أخلاق أهل القرآن وسيرهم والتخلص من أضدادها كالسفه والجهل...طول هذه المرحلة يختلف من عبد إلى عبد وهذا الاختلاف راجع إلى درجة امتيازهم في اجتياز المرحلة الأولى.
هذه المرحلة هي العمود الفقري في الهجرة إلى القرآن، لأن النجاح في اجتيازها يعني مسايرة موكب الأسلاف الصالحين في علاقتهم بكلام الله تقدس وتبارك.
٣ هي غاية الغايات ونهاية النهايات، وهي حلم الربانيين أهل الله وخاصته الذين اختلط حبهم للقرآن بدمائهم، مرحلة ثبات القدم على حب الفرقان ، مرحلة لا يكاد يميل فيها القلب إلى الأغيار الملهية عن القرآن.
مرحلة القرآن الذي يمشي على الأرض، ولا تنازل فيها عن أوراد أهمها: كثرة التلاوة+ ورد التدبر+ التهجد بالليل+ الحفظ والمذاكرة، ثم العمل وتنزيل الآيات على الواقع وتحكيمها في كل شيء.
ثم لابد من الإشارة إلى مسألة مهمة وهي التخفيف من الذنوب والشعور بأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وما أقر عين صاحب هذا المقام بخاتمة حسنة.
والحمد لله.