مواعــــــــــــدة موســـــــــى...



استقرت عصا التسيار بموسى ومن معه ، فأقاموا حيث واتاه المقام ، ومن ثم احتاجوا الى منهاج يسيرون عليه ، وشرع يركنون إليه ، فسأل موسى ربه كتابا به يهتدون ، والى حكمه يرجعون فيه من الأمر ما يأتون ، ومن النهي ما يذرون ، حت لا تتردى بهم أيام الزمان ، ولا يخطبوا في أمور المعاش والمعاد خبط عشواء .


أمر الله موسى أن يطهر ، وأن يصوم ثلاثين يوما ، ثم يأتي الى طور سيناء حتى يكلمه ربه ، فيتلقى أمره في كتاب يكون لهم المرجع والمآب .


اختار موسى من قومه سبعين رجلا ثم ذهب لميقات ربه ولكنه تعجل فسبقهم الى الطور ، فوصل بعد ثلاثين ليلة ، وقد تأخر عنه المختارون من قومه ، حينئذ سئل عن الأمر الذي بعثه على الإسراع والعجلة ،
فقال : هم أولاء على أثري ، وعجلت اليك رب لترضى . فأمِرَ أن يتم ميقات ربه أربعين ليلة .


وكان موسى قد ترك قومه واستخلف عليهم أخاه هارون وزيرا ، يقوم على شؤونهم ، ويصلح أمورهم ، ويرعى أحوالهم ، حتى يعود إليهم يحمل الأمانة الغالية ، ويسعد بذلك الشرف الموعود .


سار موسى إلى طور سيناء فكلمه ربه وناجاه ، وقربه وأدناه ، حتى سرت في نفسه روعة وهزة ، أججت في فؤاده نار الشوق ، والهبت أوار الهيام واللهفة ....
فقال : رب أرني أنظر إليك ، ولم لا يختلج في فؤاد موسى خاطر يدفعه إلى أن يطلب رؤية ربه ، وقد نعم بتلقي رسالته ، وسعد بالقرب من رعايته ، ونال ما لم ينله قبله أحد من العالمين ، أليس المأرب شريفا ، والقصد كريما ؟!


وموسى نفسه هو الرسول الذي طالبه قومه ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، فلماذا لا يسأل ربه ذلك ليرى بنفسه أمر الله في ذلك المطلب المرغوب وليكون حكم الله حجة قاطعة لهؤلاء الراجين الملحفين .


قال ربه : لن تراني ،،،،،، ولكن ،،،،،،، انظر الى الجبل ، فان استقر مكانه فسوف تراني .


تلفت موسى فإذا الجبل قد دك ، وغار في الأرض وساخ ، فارتاع لهول ذلك الخطب الجلل والأمر العظيم ،


فخر صعيقا فلطف الله به وشمله برحمته فأفاق من صعقته ، وقام يسبح الله الكبير المتعال .....


أخذ موسى الألواح ، وفيها ما يحتاج إليه بنو إسرائيل ، موعظة وتفصيلا لكل شيء ،


فقال : يا رب لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحداً قبلي .


فقال يا موسى : إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ....


وانتظر بنو إسرائيل أن يوافيهم موسى بعد ثلاثين يوما من بدء غيبته ، ولكنه ... على غير علم منه ..... طال غيابه حتى صار اربعين يوما ، فأجالوا الرأي بينهم وقالوا :......


إن موسى أخلفنا وعده ، ونقض عهده ، وتركنا في جهل مقيم وليل بهيم ، وما أجدرنا بمن ينير لنا المسالك ، ويرشدنا الى سواء السبيل !!!



عندئذ تحركت في نفس السامري نزوة الشر والفساد ،، فاغتنمها فرصة ، وقال لهم :
عليكم أن تتخذوا لكم إلها ، فليس موسى براجع إليكم لأنه خرج ينشد إلهكم فضل الطريق ، فأبطأ عليكم وأخلف الميعاد !!!


قال الشطيان قوله هذا بعد أن استشف ما في نفوس القوم من خور وانحلال أليسوا هم الذين مالت نفوسهم إلى الكفر ، وقد مروا على قوم يعكفون على اصنام لهم ،،،،
فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ؟!!!!


اغتنم السامري هذه الجهالة الجهلاء ،،،وتلك الضلالة العمياء ... وأخذ حليا ثم احتفر حفرة ، وقذفها فيها ، ثم أوقد نارا ، وصنع منها عجلا جسدا له خوار ، فأصبح فتنة بين القوم ، أظهرت منهم الكافر ، وأبانت عمن قوي إيمانه واستيقن ، ومن ضعف إيمانه ونافق ....


فتن بنو إسرائيل بهذا العجل وعبدوه ،،، فتقطعت نفس هارون أسى وحزنا وقال لهم ....


( يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعوني واطيعوا امري ، قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ) سورة طه


فأقام هارون مع البقية الثابتين على وفائهم ، المتمسكين بإيمانهم ، وخشي أن يحارب الخارجين ، حذرا من التحزب ، وخوفا من الفتنة والثورة ....


استشعر موسى من ربه هذا الامر ، إذ قال له :


يا موسى إنا فتنا قومك مع بعدك وأضلهم السامري . فلما أتم ميقات ربه ، وسار نحو قومه ،، وسمع على بعد لغطا وضجيجا ، أدرك سر الأمر ، وحقيقة الحال ، حيث هم حول العجل يرقصون ويربطون ، فتملكه نوبة من الغيظ والثورة ، فألقى ما بيده من الألواح ثم دلف نحو هارون ، وأخذ برأسه يجره إليه قائلا :


ما منعك إذ رايتهم ضلوا ألا تتبع طريقي فيهم ، فترد شاردهم وتحارب مفسدهم ، حتى تنطفئ هذه النار المتأججة بالبغي والكفران ؟!!


فتساقط نفس هارون هما وحسرة وأقبل على أخيه يستلينه ويسترحمه ، ويهدئ حدة نفسه وثورة غضبه ،،،
وقال : يابن أُم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ، فأن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ، فلا تشمت بي الأعداء ، ولا تجعلني مع القوم الظالمين .... لقد خشيت أيها الأخ الكريم إن حاربتهم أن تقول فرقت بين بني اسرائيل ولم ترقب قولي ..... ((( يا الله هي حكمة مقولة سيدنا هارون )))


عند ذلك سكت عن موسى الغضب ،،،، وأخذ يعالج حالهم بحسن الرأي والحزم فالتفت الى منبع الفتنة ، ورأس البدعة ، وداعية الضلالة ، وقال :


ما خطبك ايها السامري ؟


فقال السامري :


( بصرت بما لم يبصروا به ، فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي )) سورة طه


((((اثر الرسول هنا يقصد به اثر فرس سيدنا جبرائيل عندما أتى ليأخذ سيدنا موسى لميعاده مع الله ...كما ذكر في تفسير ابن كثير . مفسرا الاية ..
قال السامري ... رأيت جبرائيل حين جاء لهلاك فرعون فأخذت من أثر فرسه وهي ملء كف باطراف الاصابع فالقيت بها على حلي بني اسرائيل فانبسك عجلا جسدا له خوار حفيف الريح فهو خواره .)))


ثم اقبل موسى على قومه فقال : يا قوم ، ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد ، أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ،،، فأختلفتم موعدي ؟
قالوا : ما أخلفنا موعدك بملكنا ، ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم ، فصورها لنا السامري ، وأخرج لنا عجلا جسدا له خوار ، فأضلنا عن الطريق المستقيم ...


ثم ندموا على سقطتهم ، واستغفروا ربهم ،
فقالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ، ،،،
فقال لهم موسى : إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ..
قالوا : فاي شيء نصنع ؟
فقال لهم : توبوا الى بارئكم ، فسألوه أن يبين لكم طريق التوبة وسبيل المغفرة ...


فقال موسى : عليكم بقتل أنفسكم ، اكسروا حدتها ، واكبتوا شهوتها ، وطهورها من الشر والإثم ، وجردوها من كل مشتهي مرغوب ، وأقصرها عن كل مرجو مطلوب ، حتى يصغر شأن النفس الآثمة ، ويهون خطبها ، ويحقر أمرها ، فروضوا أرواحهم ، وهذبوا نفوسهم ، وأقبلوا على نبيهم ، فتاب الله عليهم إنه هو التواب الرحيم ...


أما السامري الذي أشاع تلك الضلالة المنكرة ، فإن الله عاقبه في دنياه بأن أمر بني أسرائيل إلا يخالطوه ، ولا يقربوه ، فصار وحشيا ، لا يألفُ ولا يُؤلفُ ، ولا يدنوا من الناس ، ولا يمس أحدا منهم ، وان له موعدا لن يخلف يوم القيامة ، يو يساق الى الناس آثما ليعذب بما جنت يداه ، وبئس مصير الظالمين ...


وأما عجله فقد أحرقه موسى عليه السلام وألقاه في اليم وبذلك انجابت غيابة هذه الجريمة الشنعاء ...


التــــــــيــــــــــه...


لم يكن على عهد بني اسرائيل قوم ٌ حباهم الله الخير ، وافاض عليهم النعمة ، وآثرهم بالبركات مثل هؤلاء الأقوام ، نجاهم الله من آل فرعون بعد أن ساموهم العذاب دهرا ثم عاد فأهلك فرعون على أيديهم ، وبين أسماعهم وأبصارهم ، ثم جعلهم بعد ذلك احراراً ، بعد أن كانوا عبيداً أذلاء، وجعل فيهم عددا من الأنبياء يرشدونهم وقد كانوا ضلالاً جهلاء ، وفجر لهم الصخر وأنزل عليهم المن والسلوى ، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين .


وإتماما لنعمة الله عليهم ، ورغبة منه - سبحانه - في الإحسان إليهم ، أوحى موسى أن يقودهم إلى الأرض المقدسة من بلاد الشام ، وهي أرض الميعاد ، التي وعد الله إبراهيم الخليل أن يجعلها ملكا للصالحين من ذريته والقائمين على شريعته .


ولكن بني إسرائيل كانوا - بما تعاور عليهم من ظلم الفراعنة ، وترادف عليهم من جور الحكام - قد جدعت أُنوفهم ، وذلت جباههم على خنوع وأعطوا المقادة على خضوع ، حتى هان عليهم الهوان ، وحبب إليهم الضعف والاستسلام ....


من يهن يسهل الهوان عليه ،،،،، ما لجرح بميت إيــــلام


فلم يكادوا يسمعون كلمة الغزو ، أو يكلفون دخول "أريحاء " ليخرجوا منها الحيثيين والكنعانيين ، ويتخذوها وطنا كثير الخيرات ، وافر البركات ، حتى قالوا لموسى : جبناً وضعفاً ، واستخذاء واستسلاماً :_


( إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإنا داخلون) سورة المائدة .


وكأنهم طمعوا أن يخرج القوم منها بما ألفوا من المعجزات ، وخوارق العادات ، ثم يدخلوا موفورين لم يكلم أحد منهم في سبيل الله بكلم ، ولم يصب بجرح ، شأن الضعيف العاجز والخائر الجبان !!


ولكن رجلين كانا ممن طبعهم الله على الإيمان ، وفطر نفوسهم على الطاعة والإذعان ، لم يحطبا في حبل أقوامهم ، ولم يجريا في الحديث على غرارهم ، فتوجها إلى قومهم ناصحين ، وقاما فيهم مرشدين :


( ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين -23-) سورة المائدة


ولكنهم عادوا الى حديث جُبنهم ، وإعلان خوفهم ، وزادوا على ذلك القحة والتمرد ، والغباء والتبلد ، وقالوا لموسى قولاٌ يذهب صبر الحليم ، ويثير وجيع الجرح ،، قالوا :


( يا موسى إنا لن ندخلها ابدا ما داموا فيها فاذهب انت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون -24-) سورة المائدة


وعند ذلك تلفت موسى فلم يجد من يثق بمعرفته ، ويعتمد على نصرته ، إلا أخاه هارون ، وهما وحيدان ، في أضعف جند ، وأنكد أتباع ، وأمامهما عدو قوي المراس ، كثير الجنود ، فتوجه الى الله قائلا :


( ربِ إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين -25-) سورة المائدة


فأوحى الله إليه : أن يدعهم يتيهون في هذه البيداء يضربون في مجاهلها ويخبطون في نواحيها اربعين عاماً ،، حتى يفني كبراؤهم ، ويهلك رؤسائهم ، ويظهر بعدهم جيل عزيز الجانب منيع الساحة ، وحينئذ يعودون إلى الغزو ، ويركبون متن الجهاد ...


قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) سورة المائدة




[size=24]البــــــــــقـــــــرة... [/size]
[size=18][size=18]

[/size][/size]
تقدم بالشيخ تتابع الأيام ، وأحس بدنو الأجل ، وكان عبدا صالحا لا تفتنه زخارف الحياة ن الثقة والرجاء في الله ، ولم يلهه التكاثر في المال والبنين ، بل كان لا يملك سوى بقرة يأتي بها إلى الغيضة ( الأرض الخضراء) ثم يتوجه إلى بارئه بقلب خالص ، ونفس ثابتة ،
فيقول : اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر ، وما زال الرجل يترقرق في صدره هذا الأمل القوي بنور الله حتى مات وبقيت البقرة لليتيم ، وهي عرض من العروض لا تغني شيئا ، إلا أن رحمة الله أبقى وأعز .


واستمر اليتيم يرعى البقرة ، يحدوه شعاع من الأمل ورثه من الصالحات الباقيات لأبيه .


وقد كان من وجوه بني اسرائيل شيخ موسر مد الله في أسباب دنياه وبسط له نعمة الغنى ، ورزقه ابنا وحيدا تنحدر إليه بعد موت ابيه كل هذه الثروة الواسعة ، ولكن بني عمومته نفسوا عليه هذا المال ، إذ لا يجدون من قليل ولا كثير ، فتألبوا عليه فقتلوه ، ثم طالبوا قوما آخرين بدمه ، فهبت عاصفة هوجاء ، وثارت ريح نكباء ، فلم يجد القوم ملجأ أمامهم إلا باب موسى عليه السلام ،،،، يتحاكمون إليه ، ويلتمسون عنده إيضاح الخفاء .....


سأل موسى ربه ، فأمره أن يذبحوا بقرة ، ويضربوه بلسانها فيحيا ، فيخبر بقاتله ، فضلت أحلامهم ، وعزبت عن عقولهم قوة الله وقدرته ، وظنوا أن موسى يهزأ بهم ، ويسفه أحلامهم ، فراجعوه ،


فقال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين .


ولو أنهم ذبحوا أي بقرة من يوم أن امرهم رسولهم لكانت كافية ولكنهم تمادوا في إلحاحهم ولجاجهم ، فشدد الله عليهم ، وجعل البقرة مسومة بعلامات خفي عليهم أمرها ، فتاهوا في بيداء اللجاج ...


ولقد كان هذا امرا خارقا ، وحقيقة تقتصر عن صدقها عقولهم ، فسألوا ضالين : ما هذه البقرة ؟ أكما عهدنا هذا الجنس من الحيوان ، أم هي خلق آخر تفرد بمزية ، واختص بإعجاز ؟ فأوضح الله سبيلهم ، وبين أنها بقرة لا مسنة ولا فتية ، بل هي عوان بين ذلك ، فليفعلوا ما يؤمرون ......


ولكنهم ... وهم من البشر .... قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟
قال : إنه يقول : إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ،
فازدادت حيرتهم .... وضلت عقولهم ،،،،، فلم تستطع أن تسمو إلى هذا الإلهام العجيب ... وكأنهم لم يعوا شيئا ،،،، فكرروا سؤالهم الأول معتذرين بأن البقر تشابه عليهم وهم يرجون بمشيئة الله الهدى والرشاد ..... فأجيبوا بأنها بقرة غير معدة لسقي ولا حرث ، سلمت من العيوب ولا شية فيها اي خالصة الصفرة ....


فاهتدوا إليها بعد مدة عند ذلك اليتيم الذي بارك الله في بقرته، فاشتروها منه بمال وافر ، فذبحوها بعد حيرة طويلة ، وتردد كثير ..
ثم فعلوا ما امرهم موسى... فضربوه بلسانها فحيا واخبر بمن قتله ...
[size=18][size=18]
[/size][/size]
ما اشد بأسهم ...