نساء خلدهن التاريخ
آسية بنت مزاحم.. الإيمان في بيت الكفر
ذكرها القرآن الكريم ذكرا حميدا وشرفها وأعلى قدرها في معرض المقارنة بين النساء
المؤمنات الفضليات المتوجهات بعقولهن وقلوبهن وأرواحهن إلى الله عز وجل وبين
الضالات الكافرات الخائنات وذلك في قول الله عز وجل: “ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ
عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا
عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ
رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ
الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ
بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ”. (التحريم: 10
-12).
إنها آسية بنت مزاحم التي ذكرها القرآن الكريم بالصفة وذكرها النبي صلى الله عليه
وسلم بالاسم وزكاها في قوله: “خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران. وآسية امرأة
فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد رسول الله” (رواه مسلم وأحمد عن أنس بن
مالك رضي الله عنه).
وفي نسبها تقول المراجع إنها آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان
ملكا لمصر في عهد يوسف بن يعقوب عليه السلام: “وهي امرأة صالحة كانت تدين بدين
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم الصلاة والسلام. وكانت تسمى في عصرها
(إيست نفرت) ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم سماها آسية. فقد قال صلى الله عليه
وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: “كمل من الرجال كثير. ولم يكمل من النساء إلا
آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران. وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر
الطعام” (مؤمنات لهن عند الله شأن للدكتور محمد بكر إسماعيل ص 53).
وقد اختلف الباحثون في هوية آسية بنت مزاحم وهل هي التي استقبلت موسى في قصرها

وذكرها القرآن الكريم بقول الله عز وجل:

“وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرةُ
عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَداً” (القصص: 9). أم هي التي آمنت بموسى حين بعث وفيها يقول الله عز وجل:
“وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ
رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” (التحريم: 3) والأرجح أنها هي
التي استقبلت موسى وليدا وهي التي أشرفت على تربيته ثم هي التي آمنت به حين بعث.
منام غريب
ويلخص الشيخ محمد بن أحمد بن إياس قصة ميلاد آسية بنت مزاحم وحتى زواجها في قوله:
“قال كعب الأحبار إن آسية كان أبوها مزاحم قد تزوج بأمها في الليلة التي اقترن فيها
سعد الكواكب بالزهرة فحملت امرأة مزاحم بآسية فرأى مزاحم في منامه، كأن شجرة خضراء
خرجت من ظهره، فإذا بغراب قد انقض عليها وقال أنا صاحب هذه الشجرة فانتبه مزاحم وقص
ذلك على بعض صلحاء المعبرين -أي المفسرين- فقال: ترزق جارية حسناء صديقة، وتكون عند
رجل كافر وترزق الشهادة، فلما ولدت آسية وصار لها من العمر عشرون سنة فإذا هي بطائر
[size=24]مثل الحمامة في فمه درة. فرمى بها في حجر آسية وقال لها: يا آسية خذي هذه الخرزة،

فإذا اخضرت فهو أوان تزويجك وإذا احمرت فهو وقت الشهادة.
ثم طار الطائر فأخذت الخرزة وربطتها على عضدها وأخذت في العبادة واشتهر أمرها
بالخيرات فوصفت لفرعون، فأحب أن يتزوجها، فخطبها من أبيها، فاغتم أبوها لذلك وقال:
“إن ابنتي صغيرة” فكذّبه فرعون فقال مزاحم: اجعل لها مهراً، فأبى فرعون فتلطفوا
بفرعون إلى أن أرسل إليها خلعة ومهراً فأبت فتلطفوا بها لأجل مداراة فرعون وقالوا
لها: أنت على دينك وهو على دينه. وكان قد أمهرها عشرة آلاف أوقية من الذهب ومثلها
من الفضة. وبنى لها قبة عظيمة وجعل لها جواري كثيرة. وأمر بذبح البقر والغنم فلما
صارت عند فرعون دخل عليها، وهم بها، فلم يقدر على ذلك وكان هذا حاله معها فرضي
بالنظر منها فقط”. (بدائع الزهور في وقائع الدهور: 99 -100).
احتضان موسى
وكان لآسية بنت مزاحم دور عظيم في إنقاذ نبي الله موسى عليه السلام من الذبح وفي
احتضانه وتربيته ورعايته حتى بلغ أشده وآتاه الله عز وجل حكما وعلما. ومن ثم كان
لها دور في رسالته التي هي رسالة كل الأنبياء وهي الدعوة للتوحيد الخالص، فقد كان
بنو إسرائيل يتداولون فيما بينهم رسالة مفادها انه سيظهر من بينهم غلام يكون صاحب
رسالة وأن نهاية فرعون سوف تكون على يديه. ثم إن فرعون رأى مناما مفزعا فسره له
كهنته على أن غلاما من بني إسرائيل سيظهر وستكون نهايته على يديه فأمر فرعون بذبح
كل ذكر يولد لبني إسرائيل. وجند العسس والقوابل للطواف والمرور على بيوت بني
إسرائيل ومراقبة كل امرأة حبلى حتى تلد. فإذا ولدت ذكرا ذبحوه وإذا وضعت أنثى
تركوها فتناقص عدد بني إسرائيل فاشتكى كهنة فرعون من أنه إذا استمر هذا التناقص فقد
يأتي يوم يضطر فيه المصريون إلى القيام بأعمال الخدمة وغيرها من الأعمال الحقيرة
التي يقوم بها بنو إسرائيل فقرر أن يتم الذبح عاما ويتوقف عاما.
وحملت يوكابد أم موسى بهارون ووضعته في عام المسامحة من الذبح ثم حملت في موسى في
عام الذبح. فضاقت أمه به ذرعا، واحترزت من أول ما حبلت ولم يكن يظهر عليها مخايل
الحبل، فلما وضعت ألهمت أن تتخذ له تابوتا فربطته في حبل. وكانت دارها متاخمة للنيل
فكانت ترضعه فإذا خشيت من أحد وضعته في التابوت فأرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل
عندها. فإذا ذهبوا استرجعته إليها به. ولكن قدر الله لابد أن يتم وما قضى الله به
لابد أن تجري به الأمور فقد أرسلت التابوت في يوم وذهلت أن تربط طرف الحبل عندها
فذهب مع النيل فمر على دار فرعون.
وعد إلهي
وفي الوقت الذي أصيبت فيه أم موسى بالهلع والرعب من فقدها وليدها العزيز أتاها
الوحي بأن الله عز وجل سيرده إليها وسوف يجعله نبيا من الصالحين. وحتى يتحقق وعد
الله التقطت جواري فرعون التابوت وخشين أن يفتحنه من عقاب سيدتهن آسية بنت مزاحم
فحملن إليها التابوت فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار
النبوية والجلالة الموسوية، فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حبا شديدا جدا فلما
جاء فرعون قال: ما هذا؟ وأمر بذبحه فاستوهبته منه” (قصص الأنبياء للإمام الحافظ ابن
كثير الدمشقي: ص 206-209).
وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى “وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرةُ عَيْنٍ
لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً”
(القصص: 9). فقال لها فرعون: أما لك فنعم وأما لي فلا -أي لا حاجة لي به-. وقد
أنالها الله ما رجت من النفع. أما في الدنيا فهداها الله به. وأما في الآخرة
فأسكنها الجنة بسببه ذلك أنهما تبنياه لأنه لم يكن لهما ولد.
وبعد إنقاذ حياة موسى الوليد الصغير جاء دور تربيته ورعايته. وذلك لأن موسى عليه
السلام لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة فلم يقبل ثديا ولا أخذ طعاما.
فحاروا في أمره واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل فأرسلوه مع القوابل والنساء
إلى السوق لعلهم يجدون من توافق على إرضاعه. وبينما هم مجتمعون حوله كانت أخته
تراقب عن بعد تنفيذا لأوامر أمها فلما رأت ذلك تقدمت إليهم وعرضت عليهم أن تدلهم
على مرضعة وآل بيت يكفلونه، فلما ذهبوا به إلى أمه ودون أن يعلموا أنها أمه أرضعته
فإذا هو يتلقمه ويرتضعه. ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير يعلمها بذلك.
جمع الشمل
استدعت آسية يوكابد أم موسى وعرضت عليها أن تكون عندها وأن تحسن إليها فأبت عليها
وقالت: إن لي بعلا وأولادا ولست أقدر على هذا إلا أن ترسليه معي. فأرسلته معها
ورتبت لها رواتب وأجرت عليها النفقات والكساوى والهبات فرجعت به تحوزه إلى رجلها
وقد جمع الله شمله بشملها، وهكذا صدق وعد الله عز وجل في البداية وفي النهاية وفي
كل وقت. وأسبغ الله عنايته على نبيه موسى عليه السلام. وقد سجل الله تعالى ذلك في
قوله تعالى: “قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ
مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي
التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ
يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي
وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا
تَحْزَنَ” (طه: 36-40).
وكانت آسية بنت مزاحم المؤمنة هي المتكفلة بتربية موسى ورعايته وذلك كله تحت عين
الله عز وجل وفي حفظه ورعايته وقوله سبحانه: “ولتصنع على عيني” أي تطعم وترفه وتغذى
بأطيب المآكل وتلبس أحسن الملابس بمرأى مني وذلك كله بحفظى لك
[/size]