السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

انقل لكم اليوم قصة من قصص الأنبياء

سليمان مُلك متفرد

القصة نسيج لحدث يحكي عبرة، ويوصل فكرة وقد حث القرآن عليه قال تعالى (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الأعراف: 176) وأحسن القصص ما قصه القرآن في كتابه قال تعالى (نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) (يوسف: 3) فقصص القرآن حق لا يعتريه الزيغ ولا الكذب قال تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) (آل عمران: 62) ولقد قص علينا القرآن حكاية أمم غابرة يذكرنا بحالهم ومآلهم قال تعالى (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (طـه: 99) فذكرنا بأحوال قرى آمنت وأخرى عتت عن أمر ربها قال تعالى (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا ) (الأعراف:

الآية: 101) وأردف القرآن بقصص للأنبياء لا غنى للذاكرة عنها فذكرها وأعرض عن أخرى قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) وقصص الأنبياء في القرآن عبر وحكم يستنير بها الضال ويسترشد بها الحائر قال تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111) فشأن القصة تثبيت الأفئدة وعظة من حكم الزمان مع الإنسان قال تعالى (وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود: 120). وسوف نعيش في رحاب القرآن نسترشد بقصصه ونتعظ بعبره ونستفيد من أحكامه فننال من الله تعالى السداد والقبول.

وجَّه الله تعالى المؤمنين وأرشدَهم إلى ما ينبغي عليهم من تفويض أمرهم جملةً وتفصيلاً إليه، وعلَّمهم أن يُرجِعوا كلَّ ما يحلُّ بهم إلى أمرِه سبحانه، وبيَّن لهم في كثيرٍ من القَصص التي ذكَرها في كتابه الكريم ضرورةَ الاعتمادِ والاتِّكال عليه سبحانه، وعدم الاعتماد على الأسباب المادِّية المتاحة في أيديهم فقط؛ تسليماً منهم لإرادته المطلقة، وأوجَب عليهم طاعتَه وطاعةَ رُسلِه؛ لأنَّه أعلم بمصالحهم منهم، فقال تبارك اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].

وقد ضرب الله تعالى للمؤمنين بما جَرَى مع سيِّدنا سليمان عليه السلام مثلاً في ترك الاعتماد على الأسباب فقط، مهما كانت قوية، وأن يجمعوا بين التوكل على المسبِّب لكلِّ شيءٍ سبحانه، فما تفاصيل هذه القصَّة؟

الوريث المبارَك

كان سيِّدنا سليمان وزيراً لأبيه سيِّدنا داود عليهما السلام طوال مدَّة حُكمه، ثمَّ ورثَ عنه النبوَّة والحُكم في بني إسرائيل، وآلَت إليه كلُّ الامتيازات العظيمة التي وهبها الله تعالى لأبيه عندما أصبح ملِكاً، وقد خَطَب سيِّدنا سليمان عندما تولَّى زمام المُلك خطبةً يبيِّن فيها لبني إسرائيل فضلَ الله تعالى عليه وعلى أبيه من قبل، بما وهبهما واختصَّهما به من العِلم والتمكين والعطاء الكبير لكلِّ أسباب المُلك وآليَّاته المعنويَّة والمادِّية.

حب الخيل

الخيل من الحيوانات التي جبل الناس على حبها لجمالها وكثرة خيرها، وقد كان سيِّدنا سليمان عليه السلام فارساً شجاعاً؛ ومن فروسيته أنه كان مولعاً بحبها، يشرف على شؤونها والعناية بها بنفسه، ومما زاد في حبِّه لها ما حباه الله تعالى من خيول مُجنَّحة لا مثيلَ لها، فكانت عنايته بها أشدَّ من عناية أيِّ فارسٍ بفَرسه، ولذلك كان يحضر استعراضها كلَّ مساءٍ، ويمسح بيدِيه الشريفتين أعناقَها وسيقانها، يقول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)} والصافنات هي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة، والجياد: السراع.

ولَمَّا رأى سيِّدنا سليمان عليه السلام ما مكَّنه الله تعالى فيه، وآتاه إيَّاه من أسباب المُلك والقوَّة والنصر، ولَمَّا كانت الخيول المجنَّحة تلك محبَّبةً إلى نفسِه؛ تمنَّى أن يكون لدَيه من الأولاد عددٌ كبيرٌ يكفي ليكونوا فرساناً يمتطون صهوات هذه الخيول ليجاهدوا في سبيل الله تعالى معه، وقد دفعته تلك الأمنية إلى الثقة والاعتماد على الأسباب التي منحها الله تعالى له، وازداد في ولعه، فتمنى أمنية وطلب تحقيقها ونسي أن يرد أمرها إلى الله تعالى، وقال سبحانه {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)}.

ويحدِّثنا رسولنا الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم عن أمنية سيِّدنا سليمان عليه السلام تلك، وما وَقَع له فيها من الفتنة والاختبار الربَّانيِّ؛ فيقول: (قال سُليمان بن داود عليهما السلام: لأَطوفنَّ الليلةَ على مئة امرأة - أو تسع وتسعين- كلُّهنَّ يأتي بفارسٍ يجاهد في سبيل الله.

فقال له صاحبه: قُل إن شاء الله. فلم يقل إن شاء الله، فلم يحمل منهنَّ إلَّا امرأة واحدة، جاءت بشِقِّ رجلٍ، والذي نفس محمَّدٍ بيده؛ لو قال:

إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعين)، وحين أدرك أن حبه للخيل حال دون أن يرد الأمر إلى الله تعالى، أمر بإحضارها وذبحها ليطرد حبها عن أي شاغل عن الله تعالى فقال كما حكاه القرآن الكريم (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)} [ص: 33]، وحكى الطبري في التفسير: كانت الخيل التي شغلت سليمان، عليه الصلاة والسلام عشرين ألفاً فعقرها.

إدراك الدرس

عندما وُضع ذلك الابن الوحيد المُعاق جسديّاً والذي رُزق به سيِّدنا سليمان عليه السلام من طوافِه على نسائه في تلك الليلة أمامَ عينَيه على كرسيِّه (وهو التخت الذي يكون أمامَ عرش الملك يضع عليه رجلَيه عادةً)؛ شعر بأنَّه قد اشتغل بملكه ونسي ذكر ربه، وأحسَّ بتسلُّط الشيطان عليه حين أنساه ذِكرَ ربِّه؛ لذلك أنابَ إلى الله تعالى، واستغفرَه من ذلك التصرُّف، وسألَه أن يرزقه ملكاً متفرِّداً بين الناسِ، لا يُشاركه فيه أحدٌ، وكان الأمر كما بيَّنه الله تعالى بقوله الكريم: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 35).

الاستجابة لرجائه

يعلمنا الأنبياء الإنابة بالرجوع إلى الله تعالى، وطلب المغفرة، وهكذا الشأن مع سيدنا سليمان، فقد توجه إلى ربه يطلب المغفرة، ويسأله عطاء من الدنيا، فقال كما ذكر القرآن: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ.

وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ. وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ. هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 34-40]، فرزقه الله تعالى سلطةً على الرِّيح تجري بأمرِه، ومكَّنه من السيطرة على الشياطين كلِّهم، يعملون في خدمته وخيره، بين الإمساك والعطاء، ومعناه كما يقول ابن كثير (هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا، فأعط من شئت واحرم من شئت، لا حساب عليك فهو صواب).

وقد بيَّن لنا رسولُنا الكريم، صلَّى الله عليه وسلَّم، أنَّ هذه القصَّة قد وَقعت لسيِّدنا سليمان عليه السلام أثناءَ قيامِه بترميم وتعمير بيت المقدس؛ فقال صلوات الله عليه: (إنَّ سليمان عليه السلام لَمَّا بَنى بيتَ المقدس سأل الله عزَّ وجلَّ خِلالاً ثلاثةً، سأل الله عزَّ وجلَ حُكماً يصادف حُكمَه، فأُوتيه، وسأل الله عزَّ وجلَّ ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدِه، فأُوتيه، وسأل الله عزَّ وجلَّ حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحدٌ لا يَنهزه إلَّا الصلاة فيه؛ أن يُخرجَه من خطيئته كيوم ولدته أمُّه)، وفي روايةٍ: (لَمَّا فَرَغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس؛ سأل الله ثلاثاً.. أمَّا اثنتان؛ فقد أُعطيَهما، وأرجو أن يكون قد أُعطيَ الثالثةَ).

صيد الفوائد

مما مر من تفاصيل أحداث قصة سليمان يمكننا استنباط بعض العبر، منها أنه كان عليه السلام عاليَ الهمَّة، حريصاً على طاعة الله تعالى بكلِّ أشكالها، وكان يباشر الإشرافَ بنَفسه على كلِّ عملٍ في مملكته، ويكفينا لمعرفة ذلك علمُنا بأنَّه قد مات وهو مشرفٌ على العمل، واقفاً متَّكئاً على عصاه كما أخبرنا الله تعالى بقوله الكريم: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ.

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 13-14].

ونستفيد كذلك المواظبة على الذكر، وقد حث رسول الله على ذلك قائلاً: (لا يزَالُ لِسانُكَ رطْباً من ذكْرِ اللّهِ)، وهي دلالة على ضرورة التواصل مع الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة، وربما ينسى الإنسان أن يقول كلمة في موضع معين كما قال الله تعالى لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً . إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف: 23-24] وهذا ما حصل مع سيدنا سليمان حينما نسي أن يقول تلك الكلمة، ومثيل ذلك ما حدث مع سيِّدنا يوسف عليه السلام في السِّجن، يقول الله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42]، قال رسولنا الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم: (رحم الله يوسفَ؛ لولا الكلمة التي قال: {اذكُرني عند ربِّك}، ما لبثَ في السِّجن ما لبثَ).