مرت علينا ذكرى الهجرة النبوية الشريفة ونحتفلنا برأس السنة الهجرية احتفال متواضع مثل كل عام..احتفال لا يقارن أبدا بسعادتنا بالإحتفاء بالسنة الميلادية الجديدة.. ستمرت ذكرى الهجرة مثلما تمر دون أن نحاول أن نتعمق قليلا فى هذا الحدث الجلل وأن نتخذ منه دروس مستفادة وعبر تعيننا على الإرتقاء بحياتنا للأفضل والعمل على التغيير للأمام..وأقول هذا خصيصاً لأننا فى فترة من أصعب فترات حياتنا على المستوى الوطنى والإجتماعى والتى نحتاج فيها للتغيير..فى أمس الحاجة لأن نتخذ من المواقف التاريخية ما يعيننا على إدارك معنى التحقق فعلا وليس قولا فقط..والإحساس بإرادة التغير فينا..وما أعظمها وأغلاها الدروس المستفادة من الهجرة النبوية..وهى ليست موقف تاريخى فحسب ولا يمكن تصنيفها هكذا بقدر ما كانت الحدث الذى غير من ملامح العالم بلا أدنى مبالغة ومن معالم البشرية جمعاء..الحدث الذى تضافر فيه الجميع جنبا إلى جنب..النساء والرجال سويا رغم التعب والمشقة ..
هو الإيمان العجيب إذ هل من السهولة أن يترك المرء أسرته وبيته وماله وتجارته وحياته التي نشأ فيها وترعرع عليها؟ وما الدافع للاستمرار رغم التعب والصعاب والمشكلات؟
في الوقت الذي تلوح أمامه مغريات الراحة والاسترخاء بسهولة ويسر؟ إنه الإيمان بالله الذي له ما في السماوات وما في الأرض.. فهذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن.. فتدفعه الهمة وتستهويه الغاية الفاضلة.. وهذا هو السر .. فنفر جميعاً رجالاً ونساءً وأطفالاً وشباباً.. ملبين النداء: (هاجروا إلى حيث تعزون الإسلام وتؤمنون مستقبله).
فكما هاجر الرجال هاجرت النساء.. وعلى رأسهن أم سلمة التي هاجرت وحدها.. وكما تحمّل الرجال تحمّلت النساء.. فهذه أسماء ذات النطاقين تسير بإيمانها..مع الرحلة خطوة خطوة.. فهل نحن مؤمنون؟
فالهجرة لم تكن هروباً من اضطهاد وإنما كانت سعياً إلى أرض خصبة تنبت فيها البذور الصالحة وتؤتى أكلها باستمرار بإذن ربها.
هذا هو المفهوم الأول للهجرة بدليل أن المهاجرين لم يأخذوا معهم مالاً ولا ثروة سوى عقيدتهم الراسخة بالدين وكانت هذه العقيدة هى التى مكنتهم من النجاح والانتقال بالمجتمع الجديد لينشر يقين الإسلام فى أرض الله الواسعة، حيث بدأت بعد الهجرة مرحلة نضالية تعتمد على القوة البشرية وهى ذات إمكانات ضعيفة أمام قوة المشركين التى تملك السلاح والمال والعدد الكبير ومن هنا كان معنى الانتقال بالتضحية إلى مرحلة الدفاع بالقوة الممكنة ضد الطغاة والمتجبرين بدليل أن قوة المسلمين كانت أقل.. بل إنهم كانوا ضعفاء جداً أمام قوى الشرك والجبروت الظالم..ولكن الله ينصر من يشاء وصدق سبحانه فى قوله:»إن ينصركم الله فلا غالب لكم» ومن هنا يمكن القول بأن الموازنة بين قوى المسلمين وقوى الكافرين ترجح كفة الكافرين.. ولكن الله تعالى نصر المؤمنين به ورفع رايتهم وصوتهم المنادى بأنه لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والهجرة لم تكن فى سبيل مال ولا ثروة ولا حيازة أرض واسعة ولكنها كانت انتقالاً بالفكرة المؤمنة إلى أرض مؤمنة تساعدها على النمو والارتقاء بالبشرية إلى نحو فاضل يقدر الله فيه الخير لهم والنفع بمسعاهم والتبشير بالتى هى أحس.. وذلك بدليل أ ن انتصارات المسلمين جاءت كلها بعد الهجرة.. وأول انتصار بها كانت بغزوة بدر وأصدق تعبير عن نصر الله للمسلمين الضعاف فى غزوة بدر هو قول الله تعالى:»ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة» ومعنى الذلة هنا ليس ذلة النفوس وإنما قلة العدد وضعف السلاح أمام كثرة جبارة توفر لها العدد وكل وسائل الدفاع ووسائل الهجوم ووسائل الفتك والتشريد.. لكن الله هو الغالب على أمره شاء لهذه القلة الضعيفة ان تنتصر على الكثرة القوية.. وهذا دليل عى أن الفكرة لا تقوم بذاتها وإنما تقوم بسواعد الأيدى التى تفكر لها عقول واعية، فلولا توجيه هذه العقول الواعية للأيدى الواهنة ما تحقق نصرها على الأعداء مما يؤكد صدق التعبير القرآنى فى قوله تعالى:»ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة» ومعنى النصر مقابل بمعنى الذلة أن النصر لا يكون إلا من عند الله.
حتى ولو كانت وسائل تحقيق هذا النصر قليلة وضعيفة وليس معنى ذلك أن الانتصار سيتوالى لأن الدروس بالهزيمة أقوى من الدروس بالنصر.. بدليل أن نصر الله تخلف عن المسلمين فى غزوة أحد.. لأنهم اغتروا بقوتهم وكثرة عددهم ناسين أن النصر من عند الله.. وفى التاريخ الإسلامى شاهد على ذلك دليله قول الله تعالى:»ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين» ولولا أن الله أنزل سكينته على رسوله وأنزل جنوداً لم ترها عين البشر ما تحقق نصر الله.
فحين تذكر الهجرة فإننا نذكر قوة النفس الإنسانية التى يحيل الله بها الضعف إلى قوة والتردد إلى يقين والهزيمة إلى انتصار وذلك كله من عند الله الذى وفق العمل البشرى إلى انتصار غير مسبوق.
بالهجرة نحرر أقصانا ..
فهل يمكننا اليوم أن نحقق هجرة نحرر فيها أقصانا مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟