ولد المرحوم سيدي محمد بلكبير سنة 1911 م بالغمارة قرية من قرى بوده التي تقع غرب مدينة أدرار من أسرة شريفة القدر مشهورة بالعلم و المعرفة, حيث كان والده رحمه الله من حفظة كتاب الله, وكان عمه إماما ومعلما بمسجد القرية, وكان خاله فقيها ورعا , وفي هذا الجو المفعم بعبق العلم نشأ شيخنا الجليل فحفظ القرءان الكريم والمبادئ الأولية في الفقه واللغة العربية في سن مبكرة.
ولما كان من أصحاب الهمم العالية والكبيرة تاقت نفسه الكبيرة إلى الاستزادة من العلم و المعرفة. وما إن ناهز البلوغ حتى انتقل به والده رحمه الله تعالى إلى بلدة تمنطيط التي كانت عاصمة العلم آنذاك بإقليم توات حيث تلقى فيها ما قدر له من العلوم الشرعية والعربية من توحيد وفقه وحديث وتصوف وتفسير وآداب ونحو وصرف على يد العلامة الشيخ سيدي أحمد ديدي عالم وقته ومصباح زمانه رحمه الله, فمكث عنده ثلاث سنوات كانت بأيامها ولياليها ميدانا فسيحا للعمل المتواصل تقدر حصيلتها بثلاثين سنة؛ لأن مواهب الله لا توزن بمقاييس ولا تقدر بأزمان, حيث انتهى شيخنا في هذه الفترة الوجيزة من دراسة الفقه المالكي بالأمهات, والتوحيد بالأدلة والبراهين, مع سرد وشرح صحيح البخاري, وأثناء هذه المرحلة كانت له اتصالات عديدة بعلماء وقضاة المنطقة مثل سيدي عبد الكريم البلبالي الفقيه, والشيخ بوعلام " بملوكه " والشيخ القاضي سيدي محمد بن عبد الكريم البكري ابن عم سيدي أحمد,... وغيرهم من علماء الإقليم للمذاكرة معهم والاستفادة منهم والبحث عن المشكلات العلمية التي قد لا يتمكن من مراجعة الشيخ فيها.
سافر شيخنا إلى مناطق عدة من الوطن وخارج الوطن معلما ومتعلما مفيدا ومستفيدا مثل جامع الزيتونة بتونس وجامع القرويين بفاس و الأزهر بمصر وترك بصمات لا تمحى بعوامل الزمن في كل من المشرية و لعريشة وتيميمون و أدرار فعمل في ميدان الدعوة إلى الله أزيد من نصف قرن. حيث كان ارتحاله إلى قرية العريشة ثم المشرية بطلب من أهلها ليعلمهم القرآن و علوم الشريعة فلبى طلبهم و انتهض بتعليم البنين القرآن الكريم و العلوم الشرعية خمس سنين قضاها بجد واجتهاد وتفان, كللت جهوده بما خلفه من بعده من أئمة و معلمين حملوا من بعده رسالة التعليم و إمامة المساجد والجماعات.
رجع إلى مسقط رأسه بطلب من والده بعدما كبر سنه. وخلال استقراره ببودة كان يقوم بوظيفة التعليم و الوعظ والإرشاد , وارتحل إلى مدينة تيميمون بطلب من أعيانها فافتتح بها مدرسة لتعليم القرآن و علوم الشريعة, وكان طليعة طلابه تجار مدينة تيميمون حينها, كان يقوم بتدريسهم صباحا, ثم يتفرغ للأطفال يحفظهم القرآن ويدرسهم العلوم الإسلامية بحسب سنهم و مداركهم العقلية, ولما استجدت ظروف حتمت عليه العودة إلى مسقط رأسه قفل راجعا إليها, و بها بدأ عمله التعليمي من جديد.
بعد عامين قضاهما هناك بها استدعي من طرف أعيان مدينة تيمي أدرار حاليا للقيام بمهمة الإمامة والتعليم القرآني, فلبى طلبهم و ذلك في حدود سنة 1371هـ/ 1950م, فقام رحمه الله بمهمة الإمامة, وتولى الخطابة والتعليم القرآني بالجامع الكبير, ثم أنشأ المدرسة الدينية, وهذه المحطة كانت محطته الأخيرة التي سمحت بتشييد صرح ديني وعلمي بدأ ينمو تدريجيا متخذا من المسجد والمدرسة وعاء احتضن الطلبة من كل أنحاء الوطن ومن الخارج خاصة (ليبيا ومالي والنيجر و موريتانيا) .
احتوت المدرسة في عهده ما يربو على 1200 طالب في نظام تربوي داخلي وخارجي.
أيها السادة الكرام:
انتهت إلى الشيخ رحمه الله رياسة العلم, من المذهب المالكي ارتوى, وعليه بنى أسس تدريسه, وسعى إلى نشره وتطبيقه آخذا من كل قصر وبلدة وولاية زهرة سقاها برحيق مذهب أهل المدينة, فكان طلبته سفراء أسسوا دعائم الوسطية والاعتدال, والتعليم والإصلاح أينما حلوا وارتحلوا, وأقاموا للعلم مدارس هي اليوم عامرة بفضل الله ترسم مسارها وفق ما رسمه الشيخ من منهج للتعليم والتدريس. وفي صمت عديم النظير بعيدا عن الأضواء شعاره " ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه " أثمرت حياته معلما ومرشدا ومربيا ومواصلا ليله بنهاره لا يمل إلى أن وافته المنية في يوم 15/09/2001 م رحمه الله تعالى تاركا للأمة صرحا علميا شامخا و آلاف الأئمة في مختلف أنحاء المعمورة داخل الوطن وخارجه يمثلون رمز الاعتدال والوسطية في التصور والاعتقاد .