المطلب الثاني : المعاني الكثيرة للدعاء تُبطل كون الدعاء عبادة في كلّ حال

ويستدل الوهابية على كون دعاء الأنبياء والأولياء شركاً بآيات تتحدّث عن دعاء العبادة لا عن دعاء المسألة , كقوله تعالى : ((وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً)) , وقوله تعالى : ((ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك)).

مع أنّ الدعاء ليس عبادة في كلّ حال , فأحياناً يكون عبادة وأحياناً لا يكون عبادة , وقد ورد الدعاء بمعاني متعددة , منها :
- الاستعانة , قال تعالى : ((وادْعوا شُهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين)) , وقال تعالى : ((وادعوا من استطعتم من دون الله)) , وقال تعالى : ((وليدع ربه)) .
فلو فسّرنا الدعاء بالعبادة , لكان الله تعالى آمراً بعبادة غيره!! والله تعالى لا يأمر بالفحشاء .
- السؤال : كما في : ((ادع ربك بما عهد عندك)) , وفي : ((أجيب دعوة الداعي إذا دعان)) , وفي : ((وقال الذين في النار لخزنة جهنّم ادعوا ربكم)) .
لو استبدلنا كلمة (ادع) بـ (اعبد) لما استقام المعنى .
- القول : كما في : ((فما كان دعواهم إذ جاء بأسنا)) , وفي : ((دعواهم فيها سبحانك اللهم)) , وفي : ((فما زالت تلك دعواهم)) .
فلو فسّرنا الدعاء بالعبادة لكان معنى الآية الأولى مثلاً : فما كان عبادتهم إذ جاء بأسنا ... , وهذا لا يصح .
- النداء : كما في : ((ولا يسمع الصم الدعاء)) , وفي ((يوم يدع الداع إلى شيء نكر)) , وفي ((إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم)) .
لو استبدلنا كلمة (الدعاء) بـ (العبادة) لما استقام المعنى .
- الادعاء : كما في : ((أن دعوا للرحمن ولداً))
- العذاب والهلاك : كما في ((تدعو من ادبر وتولى)) , أي تعذب وتهلك .
ولو استبدلنا كلمة (تدعو) بـ (تعبد) لما استقام المعنى .
- العبادة : كما في : ((ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك)) , وفي ((والذين لا يدعون مع الله إلها آخر)) , وفي ((قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا)) .

فقول الوهابية أن الدعاء عبادة وصرفه لغير الله تعالى شرك , يخالف تعدد المعاني لكلمة الدعاء , فلا يكون صرف الدعاء لغير الله تعالى شركاً إلا إذا كان عبادة , وبالتالي دعاء الأنبياء والأولياء بمعنى السؤال ليس عبادة لهم , إلا إذا قُصِد به التعبد أو اعتقد الداعي شيئاً من خصائص الربوبية أو استحقاق العبودية في النبي أو الولي .

والحق أنّ الوهابية ميّزوا بين معاني الدعاء المختلفة , إلّا أنهم في الغالب لم يميّزوا بين دعاء العبادة ودعاء المسألة , فاستدلوا بآيات دعاء العبادة على شركية أداء دعاء المسألة لغير الله تعالى , مع أنّ هذه الآيات تتحدث عن دعاء العبادة لا عن دعاء المسألة , ومن أكثر الآيات التي يستدلون بها في كون دعاء المسألة عبادة وصرفه لغير الله تعالى شركاً , ما يلي :

أ- قوله تعالى : ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (*) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (*) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (*) )).

قال الطبري في تفسيره : ( يقول تعالى ذكره لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- ما الفرق بين الدعاء عبادة و الدعاء مسألة ؟  Frown وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا ) أيها الناس ( مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) ولا تشركوا به فيها شيئا ، ولكن أفردوا له التوحيد ، وأخلصوا له العبادة....
عن ابن عباس، قال: قول الجنّ لقومهم ما الفرق بين الدعاء عبادة و الدعاء مسألة ؟  Frown لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، قال: عجبوا من طواعية أصحابه له؛ قال: فقال لقومهم لما قام عبد الله يدعوه( كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا )... ) .
وقال البغوي في تفسيره : ({ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } يعني المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله { فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله المؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد وأراد بها المساجد كلها ) .
فالآية ظاهرة في دعاء العبادة لا في دعاء المسألة .

ب- قوله تعالى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }.
قال الطبري في تفسيره : (يقول تعالى ذكره: ومن يدع مع المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له معبودا آخر، لا حجة له بما يقول، ويعمل من ذلك ولا بينة )
وقال البغوي في معالم التزيل : ({ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } أي: لا حجة له به ولا بينة، لأنه لا حجة في دعوى الشرك) .

ج - قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (*) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (*) }
قال الطبري في تفسيره : ( يقول تعالى ذكره: ولا تدع ، يا محمد ، من دون معبودك وخالقك شيئًا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام. يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفًا ضرَّها، فإنها لا تنفع ولا تضر ) .
وقال البغوي في معالم التنزيل : ({ وَلَا تَدْعُ } ، ولا تعبد، { مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ } ، إن أطعته، { وَلَا يَضُرُّكَ } ، إن عصيته، { فَإِنْ فَعَلْتَ } ، فعبدت غير الله، { فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } ، الضارين لأنفسهم الواضعين العبادة في غير موضعها) .

د- قوله تعالى : ((لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ )) .
قال الطبري في تفسيره : ( وإنما عنى بالدعوة الحق، توحيد الله وشهادةَ أن لا إله إلا الله..... .
وقوله : (والذين يدعون من دونه) يقول تعالى ذكره: والآلهة التي يَدْعونها المشركون أربابًا وآلهة ) .
وقال البغوي : ({ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي: يعبدون الأصنام من دون الله تعالى. { لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ } أي: لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضر... )

هـ - قوله تعالى : ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ))

قال الطبري في تفسيره : (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه، ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه عند ضرّ ينزل بكم، فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم، أو تحويله عنكم إلى غيركم، فتدعوهم آلهة، فإنهم لا يقدرون على ذلك، ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم. وقيل: إن الذين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول، كانوا يعبدون الملائكة وعزيرا والمسيح، وبعضهم كانوا يعبدون نفرا من الجنّ ....
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابا( يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) يقول:
يبتغي المدعوّون أربابا إلى ربهم القُربة والزُّلفة، لأنهم أهل إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله..)

وقال البغوي في تفسيره : ( .. قال الله تعالى: { قُلِ } للمشركين { ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ } أنها آلهة { فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ } القحط والجوع { عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا } إلى غيركم أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر. { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } يعني الذين يدعونهم المشركون آلهة يعبدونهم ..) .

فالوهابية لم يميّزوا غالبًا بين دعاء المسألة ودعاء العبادة , وأنزلوا آيات دعاء العبادة على دعاء المسألة , فحكموا على من صَرَف دعاء المسألة لغير الله بِحُكْمِ من صَرَف دعاء العبادة لغير الله! , فصار دعاء المسألة مرادفاً للعبادة , ولو كان الأمر كذلك لكان جميع الناس مشركين لسؤال بعضهم بعضاً ألوف المرات , وهذا ما جعل بعض الوهابية يفرقون بين دعاء المسألة ودعاء العبادة , لكنّهم جعلوا بعض أنواع دعاء المسألة من الشرك .