بسم الله الرّحمن الرّحيم

ذكر ابن جزيٍّ الغرناطيّ رحمه الله في مقدّمات "تقريب الوصول" مراتب الإدراك، ومنها الظّنّ، وأنّ ما يفيدُ الظّنَّ يسمّى عندهم أمارة، ثمّ ذكر أنّ الأمارةَ ثلاثةُ أشياءَ: مشهورات، ومقبولات، ووهميّات. وذكر أنّ المشهوراتِ ما اتّفق عليه النّاسُ، أو أكثرُهم، أو قال به الأفاضل منهم؛ مِن العوائدِ وغيرِها.
وقد أخذ ابنُ عاصمٍ رحمه الله فحوى هذا التّقرير، مع اطّراحِ الوهميّات، فقال في "المرتقى":
فما يُرى عن ثقةٍ منقولا * دون التّواتُر ادعه مقبولا
وما عليه للورى موافقه * مِن عادةٍ أو غيرِها موافقه
أو جلِّهم أو مَن له الفضلُ أُلِف * فذاك بالمشهورِ عندهم عرف

فأشكل عليَّ هذا التّحصيل، مِن وجهين:

- مَن الّذي ذكر أنّ الّذي عليه اتّفاقُ النّاسِ، أنّه مِن المشهور؟

- وهل المشهورُ الّذي هذه صفتُه يفيدُ الظّنّ؟ فإنّه قد احتفَّ به ما يزيلُ عنه نسبةَ الاحتمال، ويرفعُ إلى درجةِ القطع؟!

أشكل عليَّ هذا، ورحم الله امرأً قرأ ودلَّ وأزال الإشكال.

لشيخ الفاضل..حياكم الله

اقتباس:
مَن الّذي ذكر أنّ الّذي عليه اتّفاقُ النّاسِ، أنّه مِن المشهور؟

الذي ذكر ذلك هم المناطقة، فالمشهورات عندهم نوع من القضايا يحكم بها العقل بواسطة تطابق آراء الكل عليها، أو آراء الأكثر، أو آراء طائفة مخصوصة
فالقضية التي يحكم العقل بمضمونها استناداً إلى مجرد اعتراف الناس دون النظر إلى جهات أخرى - هي من قبيل المشهورات
واعتراف الناس بمجرده لا يفيد إلا الظن عندهم
ثم قد تكون القضية المشهورة معلومة الصدق وقد تكون معلومة الكذب
لكن العلم بصدقها أو كذبها يحصل بالالتفات إلى جهات أخرى زائدة على مجرد اعتراف الناس
ومن أمثلة ذلك عندهم:
قول القائل: "الظلم قبيح"، فهذه القضية إن حكم بها الناظر استناداً إلى مجرد إطباق الناس عليها فهي من المشهورات، وإن ضم إلى ذلك النظر إلى جهات أخرى كتحريم الشرع للظلم ونحوه فهي يقينية معلومة الصدق، فهي مشهورة باعتبار ويقينية باعتبار آخر
وقول القائل: "ذبح الحيوانات قبيح"، فهذه القضية إن حكم بها الناظر استناداً إلى مجرد إطباق كثير من الناس عليها فهي من المشهورات، لكن إن التفت إلى جهات أخرى مثل ما ورد في الشرع من مشروعية الأضاحي وغيرها مما شرع فيه الذبح- كانت عنده معلومة الكذب ..وهكذا

فالحد الأدنى الذي يجعل القضية مشهورة هي عموم اعتراف الناس، ثم قد تكون مع ذلك يقينية، وقد تكون كاذبة، واليقين بها (أو تكذيبها) لا يحصل إلا بالالتفات إلى جهات من النظر زائدة على مجرد قبول الناس لها

يقول التفتازاني: (فإن قلتَ: المشهورات قد تكون يقينية بل أولية، فكيف يجعل من غير اليقينيات، قلتُ: المراد أن المشهورات لا يعتبر فيه اليقين ومطابقة الواقع بل الشهرة وتطابق الآراء، سواء كانت يقينية أو لا، فبعض القضايا يكون يقينياً باعتبار، ومشهوراً باعتبار). شرح الشمسية ص373
وراجع تقرير المناطقة في ذلك وأمثلتهم في : بحر العلوم ص581، وشرحي القطب الرازي على: المطالع 2/450، والشمسية 462-463
وقد اعترض شيخ الاسلام على ما قرروه في هذا، فليراجع الرد على المنطقيين ص464 وما بعدها .

اقتباس:
(وهل المشهورُ الّذي هذه صفتُه يفيدُ الظّنّ؟ فإنّه قد احتفَّ به ما يزيلُ عنه نسبةَ الاحتمال، ويرفعُ إلى درجةِ القطع؟!)
لم يحتف به شيء، فاعتراف الناس واتفاقهم ليس محتفاً بالمشهور بل هو داخل في ماهيته، فما اعتقدتم –حفظكم الله- أنه محتف بالمشهور هو جزء من معناه ليس بخارج عنه