ولد الإمام العالم الحافظ الفقيه شيخ الإسلام محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين الحوراني الدمشقي النووي بقرية نوى -من قرى حَوْران السورية- سنة (631 هـ)، ونُسب إلى قريته التي ولد بها (نوى) واشتهر بها حتى صار يعرف بالنووي نسبة إليها.

كانت بدايته في طلب العلم مبكرة، حيث بدأ حفظ القرآن في العاشرة من عمره ثم قرأ الفقه على بعض أهل العلم، ثم انتقل مع أبيه إلى دمشق لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة دار الحديث، وسكنَ المدرسة الرَّواحِيَّة -وهي ملاصقة للمسجد الأموي-، وعندما أكمل عشرين عاما من عمره حجَّ مع أبيه، ثم رجع إلى دمشق، وهناك أكبَّ على علمائها ينهل منهم ويأخذ عنهم.

سمع سنن النسائي وموطأ مالك ومسند الشافعي ومسند أحمد بن حنبل، ومسند الدارمي، وسنن ابن ماجة والدارقطني والبيهقي، وشرح السنّة للبغوي، ومعالم التنزيل للبغوي في التفسير، وكتاب الأنساب للزبير بن بكار، وعمل اليوم والليلة لابن السني، وآداب السامع والراوي للخطيب البغدادي، وأجزاء كثيرة غير ذلك.

برع في التأليف والتصنيف، وانتشرت كتبه ومصنفاته حتى لا يكاد بيت مسلم يخلو من أحدها، ومن أشهرها: الأربعون النووية، والأذكار، ورياض الصالحين، وشرحه لصحيح مسلم، إضافة إلى كتب ومؤلفات صارت مراجع علمية: كالمنهاج والمجموع والروضة في الفقه، والتيسير في علوم الحديث، والتبيان في آداب حملة القرآن وغير ذلك.

مناقبه وثناء الأئمة عليه:

كان إماما عالما حافظا فقيها، قال عنه الإمام الذهبي: "الشيخ الإمام القدوة، الحافظ الزاهد، العابد الفقيه، المجتهد الرباني، شيخ الإسلام، حسنة الأنام"، وقال الإمام ابن كثير: "الشيخ الإمام، العلامة الحافظ، الفقيه النبيل، محرر المذهب ومذهبه، وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد، كان على جانب كبير من العلم والعمل والزهد والتقشف، والاقتصاد في العيش والصبر على خشونته، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله بدهر طويل".

وقال في حقِّه الإمام العلامة محمد بن علاَّن الصديقي: "شيخ الإسلام، علم الأئمة الأعلام، أوحد العلماء العاملين، والأولياء الصالحين، عين المحققين، وملاذ الفقهاء والمحدثين، وشيخ الحفاظ، وإمام الحفاظ، وإمام أرباب الضبط المتقنين".

وقفات مع سيرته:

أهم ما يمكن أن نقف عليه في حياة الإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي - رحمه الله -:

- جدّه واجتهاده في طلب العلم: كان الإمام النووي على درجة عالية من الذكاء وسرعة الحفظ، حتى إنه حفظ كتاب (التنبيه) في أربعة أشهر ونصف، وحفظ ربع العبادات من كتاب (المهذب) في باقي السنة، واستطاع في فترة وجيزة أن ينال إعجاب وحبّ أستاذه أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد المغربي، فجعله معيد الدرس في حلقته، ثم درَّس بدار الحديث الأشرفية وغيرها.

وقد جمع إلى جانب الجدّ في الطلب غزارة العلم والثقافة المتعددة، فقد ذكر عنه تلميذه علاء الدين بن العطار أنه كان يقرأ كل يوم اثتني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً، درسين في كتاب الوسيط، وثالثاً في كتاب المهذب، ودرساً في الجمع بين الصحيحين، وخامساً في صحيح مسلم، ودرساً في كتاب اللمع لابن جني في النحو، ودرساً في كتاب إصلاح المنطق لابن السكّيت في اللغة، ودرساً في الصرف، ودرساً في أصول الفقه، وتارة في اللمع لأبي إسحاق، وتارة في كتاب المنتخب للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين، وكان يكتبُ جميعَ ما يتعلق بهذه الدروس من شرح مشكل وإيضاح عبارة وضبط لغة.

- زهده وورعه وتواضعه: كان الإمام النووي يتحلى بالزهد والورع والتواضع، ويعرض عن جميع المتع والشهوات، ويبالغ في التقشف وشظف العيش، ومن أمثلة ورعه الشديد أنه كان لا يأكل من فواكه دمشق، ولما سُئل عن سبب ذلك قال: "إنها كثيرة الأوقاف، والأملاك لمن تحت الحجر شرعاً، ولا يجوز التصرّف في ذلك إلا على وجه الغبطة والمصلحة، والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها اختلاف بـين العلماء، ومن جوَّزَها قال: بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟".
وأما تواضعه فقد كان يكره أن يلقب بـ(محيي الدين)، قال اللخمي: "وصح عنه أنه قال: لا أجعل في حل من لقبني محيي الدين، وذلك منه على ما نشأ عليه من التواضع، وإلا فهو جدير به لما أحيا الله به من سنن وأمات به من بدع، وأقام به من معروف، ودفع به من منكر، وما نفع الله به المسلمين من مؤلفات، ولكن يأبي الله إلا أن يظهر هذا اللقب له، عرفانا وإشارة بذكره".

- غزارة إنتاجه العلمي: اعتنى الإمام النووي بالتأليف فترك نتاجا علميا كبيرا رغم موته قبل أن يكمل خمسا وأربعين سنة، وقد بارك اللّه له في وقته وأعانه، فأذاب عُصارة فكره في كتب ومؤلفات عظيمة ومدهشة، تلمسُ فيها سهولةُ العبارة، وسطوعَ الدليل، ووضوحَ الأفكار، والإِنصافَ في عرض آراء الفقهاء، وما زالت مؤلفاته حتى الآن تحظى باهتمام كل مسلم، وينتفع بها في سائر البلدان.
ويذكر الإمام الإِسنوي تعليلاً لطيفاً ومعقولاً لغزارة إنتاجه فيقول: "اعلم أن الشيخ محيي الدين رحمه اللّه لمّا تأهل للنظر والتحصيل، رأى في المُسارعة إلى الخير أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفاً، ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنيفه تحصيلاً، وتحصيله تصنيفاً، وهو غرض صحيح، وقصد جميل، ولولا ذلك لما تيسر له من التصانيف ما تيسر له".

وفاته:

توفي الإمام يحيى بن شرف النووي بنوى في الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة من الهجرة النبوية الشريفة، وله من العمر خمس وأربعون سنة فقط، ولما بلغ نعيه إلى دمشق ارتجَّت هي وما حولها بالبكاء، وتأسَّف عليه المسلمون أسفًا شديدًا، وتوجّه قاضي القضاة عز الدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة عليه في قبره، رحمه الله رحمة واسعة.