ثُمامة بن أَثال رضي الله عنه يضرب الحصار الإقتصادي على قريش Sahaba-07

* في السنَةِ السادِسَةِ للهِجرَةِ عَزَمَ الرسولُ صلواتُ اللهِ عليه عَلَى أن يوسِّعَ نِطاق دَعوتهِ إلى اللهِ، فَكَتَبَ ثمانِيةَ كُتُبٍ إلى ملوكِ العربِ والعجَم، وبعث بها إليهم يدعوهم فيها إلى الإسلام.
وكان في جملة من كاتبهم (( ثمامة بن أثال الحنفي)).
ولا غزو ( أي لاعجب ) ، فثمامة قيل من أقيال العرب في الجاهلية ( القيل هو الملك أو الرئيس وسمي بذلك لأنه إذا قال أمرا نفذ )..
وسيد من سادات بني حنيفة المرموقين . . . وملك من ملوك اليمامة الذين لا يعصى لهم أمر.

* * *
- تلقى ثمامة رسالة النبي عليه الصلاة والسلام بالزراية والإعراض.
وأخذته العزة بالإثم ؛ فأصم أذنيه عن سماع دعوة الحق والخير. . .
ثم إنه ركبه شيطانه فأغراه بقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم ووأد دعوته معه، فدأب يتحين الفرص للقضاء على النبي حتى أصاب منه غره ( الغرة هي الغفلة ) ، وكادت تتمُّ الجريمة الشنعاء لولا أن أحد أعمام ( ثُمامة ) ثناه عن عزمه في آخر لحظه ، فنجَّى الله نبيه من شره.
لكنّ ثمامة إذا كان قد كفّ عن رسول الله صلوات الله عليه وسلم، فإنه لم يكف عن أصحابه، حيث جعل يتربص بهم، حتّى ظفر بعدد منهم وقتلهم شر قتله؛ فأهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمه، وأعلن ذلك في أصحابه.

* * *
- لم يمض على ذلك طويل وقتٍ حتى عزم ثمامة بن أثال على أداء العمرة ، فانطلق من أرض اليمامة موليا وجهه شطر مكّة، وهو يُمنِّي نفسه بالطواف حول الكعبة والذبح لأصنامها...

* * *
- وبينما كان ثمامة في بعض طريقه قريباً من المدينة نزلت به نازلة لم تقع له في حسبان.
ذلك أن سريّة من سرايا رسول الله صلوات الله عليه ، كانت تجوس خلال الدّيار خوفاً من أن يطرق المدينة طارق، أو يريدها معتد بشر.
فأسرت السرية ثمامة ( وهي لا تعرفه ) ، وأتت به إلى المدينة ، وشدته إلى سارية من سواري المسجد، منتظرة أن يقف النبي الكريم بنفسه على شأن الأسير، وأن يأمر فيه بأمره.
ولما خرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى المسجد، وهمّ بالدخول فيه رأى ثمامة، مربوطا في السارية فقال لأصحابه: (أتدرون من أخذتم؟).
فقالوا: لا يارسول الله.
فقال: (هذا ثمامة بن أثال الحنفي، فأحسنوا أساره ...).
ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى أهله وقال: (اجمعوا ماعندكم من طعام وابعثوا به إلى ثمامة بن أسد....).
ثم أمر بناقته أن تُحلب له في الغدوِّ والرواح، وأن يقدم إليه لبنها... وقد تم ذلك كله قبل أن يلقاه الرسول صلوات الله عليه أو يكلمه.

* * *
- ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على ثمامة يريد أن يستدرجه إلى الإسلام وقال: (ماعندك ياثمامة؟).
فقال: عندي يامحمد خير... فإن تقتل تقتل ذا دم ... وإن تنعم تنعم على شاكر... وإن كنت تريد المال؛ فسل تُعط منه ماشئت.
فتركه رسول الله صلوات الله عليه يومين على حاله، يؤتى له بالطعام والشراب، ويحمل إليه لبن الناقة ثم جاءه، فقال: (ماعندك ياثمامة؟).
قال: ليس عندي إلا ماقلت لك من قبل... فإن تُنعم تُنعم على شاكر... وإن تقتل تقتل ذا دم ... وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ماشئت.
فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان اليوم التالي جاءه فقال: ( ماعندك ياثمامة؟ ).
فقال: عندي ماقلت لك... إن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال أعطيتك منه ماتشاء.
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: (أطلقوا ثمامة...).
ففكوا وثاقه وأطلقوه.

* * *
- غادر ثمامة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومضى حتى إذا بلغ نخلا في حواشي المدينة ( قريبا من البقيع ) فيه ماء أناخ راحلته عنده، وتطهر من ماءه فأحسن طهوره، ثم عاد أدراجه إلى المسجد، فما إن بلغه حتى وقف على ملأٍ من المسلمين وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
ثم اتجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يامحمد، والله ماكان على ظهر الأرض وجه أبغض إلي من وجهك... وقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي. والله ماكان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين كله إليّ. ووالله ماكان بلدٌ أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي.
ثم أردف قائلا: لقد كنت أصبت في أصحابك دما فما الذي توجبه علي؟
فقال عليه الصلاة والسلام: (لاتثريب عليك ياثمامة... فإن الإسلام يجبُّ ماقبله....).
وبشره بالخير الذي كتبه الله له بإسلامه.
فانبسطت أسارير ثمامة وقال: والله لأصيبن من المشركين أضعاف ما أصبت من أصحابك، ولأضعن نفسي وسيفي ومن معي في نصرتك ونصرة دينك.
ثم قال: يارسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى أن افعل؟
فقال عليه الصلاة والسلام: (امض لأداء عمرتك ولكن على شرعة الله ورسوله)، وعلّمه ما يقوم به من المناسك.

* * *
- مضى ثمامة إلى غايته حتى إذا بلغ بطن مكة وقف يُجلجلُ بصوته العالي قائلا: ( لبيك اللهم لبيك... لبيك لا شريك لك لبيك... إن الحمد والنعمة لك والملك... لا شريك لك )...
فكان أول مسلم على ظهر الأرض دخل مكة ملبيا.

* * *
- سمعت قريش صوت التلبية فهبت غاضبة مذعورة، واستلّت السيوف من أغمادها، واتجهت نحو الصوت لتبطش بهذا الذي اقتحم عليها عرينها.
ولما أقبل القوم على ثمامة رفع صوته بالتلبية، وهو ينظر إليهم بكبرياء؛ فهمّ فتى من فتيان قريش أن يرديه بسهمه فأخذوا على يده وقالوا: ويحك أتعلم من هذا؟!
إنه ثمامة بن أثال ملك اليمامة...
والله إن أصبتموه بسوء قطع قومه عنا الميرة ( المؤونة ) وأماتونا جوعا.
ثم أقبل القوم على ثمامة بعد أن أعادوا السيوف إلى أغمادها وقالوا ما بك يا ثمامة ؟!!
أصبوت وتركت دينك ودين آبائك؟!!
فقال: ماصبوت ولكن اتبعت خير دين... اتبعت دين محمد.
ثم أردف يقول: أقسم برب هذا البيت، إنه لا يصل عليكم بعد عودتي على اليمامة حبة من قمحها أو شيء من خيراتها حتى تتبعوا محمدا عن أخركم...

* * *
- اعتمر ثمامة بن أثال على مرأى من قريش كما أمره الرسول صلوات الله عليه أن يعتمر...
وذبح تقربا لله لا للأنصاب والأصنام، ومضى إلى بلاده فأمر قومه أن يحبسوا الميرة عن قريش، فصدعوا بأمره واستجابوا له، وحبسوا خيراتهم عن أهل مكة.

* * *
- أخذ الحصار الذي فرضه ثمامة عن قريش يشتد شيئا فشيئا، فارتفعت الأسعار وفشا الجوع في الناس واشتد عليهم الكرب، حتى خافوا على أنفسهم وأبنائهم من أن يهلكوا جوعا.
عند ذلك كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن عهدنا بك أن تصل الرحم وتحض على ذلك... وها أنت قد قطعت أرحامنا، فقتلت الآباء بالسيف وأمت الأبناء بالجوع. وإن ثمامة بن أثال قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يبعث إلينا بما نحتاج إليه فافعل.
فكتب عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة بأن يطلق لهم ميرتهم فأطلقها.
ظل ثمامة بن أثال ما امتدت به الحياة وفيا لدينه ، حافظا لعهد نبيه، فلما التحق الرسول عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى، وطفق العرب يخرجون من دين الله زرافات ووحداناً، وقام مسيلمة الكذاب في بني حنيفة يدعوهم إلى الإيمان به، وقف ثمامة في وجهه، وقال لقومه: يابني حنيفة إياكم وهذا الأمر المظلم الذي لا نور فيه ... إنه والله لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم، وبلاءٌ على من لم يأخذ به.
ثم قال: يابني حنيفة إنه لا يجتمع نبيان في وقت واحد، وإن محمدا رسول الله لا نبي بعده، ولا نبي يشرك معه، ثم قرأ عليهم: { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } غافر3..
ثم قال: أين كلام الله هذا من قول مسيلمة: (ياضفدع نِقِّي ما تنقين، لا الشراب تمنعين ولا الماء تكدرين).
ثم انحاز بمن بقي على الإسلام من قومه ومضى يقاتل المرتدين جهاداً في سبيل الله وإعلاء لكلمته في الأرض.
- جزى الله ثمامة بن أثال عن الإسلام والمسلمين خيرا... وأكرمه بالجنة التي وعد المتقون.