التدليـــــس


السؤال : يقول السائل : البخاري رحمه الله احتج بحميد الطويل وأكثر منه ولم يحتج بأبي الزبير مع أنه أقل منه تدليـــسًا ؟


الجــواب : من قال بأنه أقل منه تدليسًا ؟


ثم الذين يدلس عنهم حميد الطويل هما اثنان إما ثابت وإما قتادة وهما ثقتان، ومن هنا رجحوه علي أبي الزبير ، وأبو الزبير من الثقات ـ إن شاء لله ـ ولا نطعن فيما رواه مسلم عنه ولو كان بالعنعنة ؛ لأن بعض الناس يقول أبو الزبير مدلس وإذا وجدنا له إسناد معنعن في مسلم أو غيره فلابد أن نحكم عليه بالضعف لأنه مدلس وقد عنعن ألا رواية الليث عنه .


وهذه النظرية فيها خطأ ؛ فإن صحيح مسلم له مزايا :


المزية الأولـــى : أن الأمة تلقته بالقبول وعلى رأسهم أئمة الجرح والتعديل ، وقد انتقدوا أحاديث معروفة أصابوا في نقدهم وأخطئوا في نفس الوقت ، وقد يكون الناقد مثل الدارقطني وأبي مسعود الدمشقي وأبي علي الغساني الجياني وغيرهم ، قد يصيب وقد يخطئ ،انتقدوا الصحيحين البخاري ومسلمًا .


لكن الغالب أن الحق مع الشيخين ، لأنهما أعلم بالحديث ممن انتقدهم وأكثر تحريًا والتزامًا .


الشاهد : أن الأحاديث التي لم ينتقدها أحد من أئمة النقد المذكورين مثل أحاديث أبي الزبير ؛ فلا ننتقدها ؛لأن الأمة تلقتها بالقبول وأئمة النقد لم ينتقدوها ـ رحمهم الله ـ .


الميزةالثانية :أن الشيخين التزما الصحة فيما يوردانه في صحيحيهما ـ رحمهما الله ـ، وانتقيا هذه الأحاديث الموجودة في صحيحيهما التي ترجع إلى أربعة آلاف تقريبًا ، طبعًا مسلم يعدد الطرق ، والبخاري يكرر ، يعني بكثرة الأسانيد تصل الأربعة آلاف هذه إلى اثني عشر ألفـًا في صحيح مسلم ، و الأربعة آلاف في البخاري تصل إلى سبعة آلاف وشيء يعني : بالتكرار.


فالتزما الصحة في الأحاديث وانتقـيا من مئات الآلاف من الأحاديث ، وصرحا بالتزامهما بالصحة .


مسلم لما كان يكتب في صحيحه وجاء إلى حديث أبي موسى رضي الله عنه وقد روي من طرق في كيفية صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه (( وإذا قرأ فأنصتوا ))، قال له أبو بكر ابن أخت أبي النضر : هذا الحديث قد قيل فيه أو كلامًـا نحو هذا ، فقال مسلم : هو عندي صحيح أتريد أحفظ من سليمان يعني سليمان التيمي ؟ لأن طريق سليمان التيمي عن قتادة هي المنتقدة من بين عدد من الطرق عن قتادة ، فقال له : أتريد أحفظ من سليمان ؟ فقال له أبو بكر: فحديث أبي هريرة (( وإذا قرأ فأنصتوا )) ، فقال : هو عندي صحيح ، قال له : لِــــــــم لَــَــــمْ تضعه هَـــاهُنـَــا ــ أي في كتابك الصحيح ــ ، قال : ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هَاهُنــَا ! إنما وضعت هَاهُنَا ما أجمعوا عليه .




هو لا يتحرى الصحيح فقط ، فحديث أبي هريرة صحيح ومع ذلك لم يدخله في كتابه لماذا ؟ لأنه يتحرى الأصح ،وقد يُخطئ أحياناً رحمه الله .




وقد بين مسلم منهجه فيما يُورده في الكتاب .




واعلموا أن الله قد ضمن حفظ هذا الدين فقال سبحانه : (( إِنَا نَحنُ نَزّلْنَا اُلذِكْرَ وَ إِنّا لَََـهُُ لَحَفِظُُونَ )) [ الحجر:9] ، فما من إنسان يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يخطئ لابد أن يبين هذا الخطأ .




ومن هذا المنطلق ، منطلق الحفاظ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف أئمة النقد كتب العلل وانتقدوا الرواة وانتقدوا الأحاديث ــ رضوان الله تعالى عليهم ــ نصحًـــا لله تبارك وتعالى ــ وحرصًـا على ألا ينسب إلى الله تعالى ، ثم إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلا ما يثبت ، ولم يستثنوا حتى الإمــامين الجليلين البخاري ومسلم ــ رحمهم الله ــ ولكن هؤلاء المجتهدين النقاد الذين انتقدوا الصحيحين منهم من يصيب ومنهم من يخطئ ، فقد يهيئ الله لهم الصواب وقد لا يتهيأ لهم ذلك .




وقد ناقشهم أئمة الحديث فيما ناقشوا فيه الإمامين ، حتى إن الإمام ابن تيمية رحمه الله تتبع هذه الانتقادات وقال : لم يصيبوا فيما انتقدوا فيه البخاري إلا في أربعة أحاديث ، بل الصواب معه .




وأما مسلم رحمه الله قال : فيه خطأ بعض الكلمات وبعض العبارات ، وانتقد أحاديث صلاة الكسوف وقال : فيها خطأ ، بعضهم قال في ركعتين ست ركُوعات فخالفوا الأحاديث الثابتة ،مثل حديث عائشة وابن عباس وغيرهما في صلاة الكسوف خالفوا ، وغلط بعض الرواة وقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم ركع فيها في ركعتين ست ركوعات ، وإنما هي أربع ركوعات في كل ركعة ركوعان وذكر بعض الأحاديث .




أنا كما تعرفون ناقشت الدارقطني في كتابي ( بين الإمامين )ــ رحمهم الله جميعا ــ وكان الصواب حليفاً لمسلم في معظم انتقادات الدارقطني رحمه الله ،، وبقيت لي من حوالي مائة حديث ثمانية أحاديث ، وأتمنى إلى الآن أن ينشط أحد طلاب العلم الأقوياء أن يدرسها من جديد ، لأني أنا حرصت في دراستي على الدفاع عن مسلم لا بالتعصب وإنما بالأدلة والبراهين




والخلاصة فيها : أن بعض النقد يتجه إلى إسنــاد معين ويكون للحديث أسانيد أُخَر في نفس صحيح مسلم وفي البخاري وغيرهم ، فهذا النقد مُوَجه للإسناد فقط لا يُؤثر على الحديث بل يبقى الحديث صحيحاً وقد يكون متواتراً .




وبعض النقد إذا كان ليس للحديث إلا إسنـاد واحد وانصب عليه النقد فإنه قد يكون الحديث ضعيفًا وهذا نادر جدّا ، وأغلب الانتقادات إنما هي موجهة لبعض الأسانيد ، وراجعوا كتابي (بين الإمامين ).




كذلك النووي ناقش الدارقطني ، وأبو مسعود وإن كان ينتقد مسلمـًا لكنه قد يناقش الدارقطني أحيانًا ، الحافظ ابن حجر دافع عما يخص الإمام البخاري وعن الأحاديث المشتركة بين الشيخين ــ رحمهم الله جميعا ــ .
[ لقاء حديثي منهجي مع بعض طلاب العلم بمكة ]
السؤال : كيف نحمل قول الإمام مسلم : في مقدمة صحيحه وقد حكى الإجماع على قبول السند المعنعن مع المعاصرة وإمكان اللقاء وبعضهم يقول لا يبعد أن يكون مذهب البخاري هو مذهب مسلم بناء على الإجماع الذي حكاه الإمام مسلم ــ رحمهما الله ــ ؟
الجواب : هناك فرق بين شرط البخاري وشرط مسلم ، هذا بالاستقراء ، باستقراء عمل البخاري وكتابته في التأريخ تبين لهم أن البخاري يشترط ثبوت السماع ، سماع الراوي عن شيخه ، لابد أن يكون السماع واللقاء ولو مرة واحدة ، فإذا ثبت سماعه كان الأصل في كل ما يرويه عن شيخه السماع ، يكفي هذا ما لم يكن مدلســًا .
إذا كان مدلسـًا فيستوي فيه البخاري ومسلم وغيرهم من أئمة الحديث،، إذا كان مدلسـًا وجاء بصيغة تحتمل السماع وعدم السماع مثل : ( قال ) و ( أن ) و ( عن ) وما شاكل ذلك وهــــو مدلس فلا نقبل روايته حتى نجد منه تصريح بالسماع والتحديث .
الشاهــد : أن المسألة الناس ينفخون فيها – نسأل الله العافية -- ،مسلم حكى الإجماع حسب اجتهاده على أنه إذا كان المحدث مدلس وعاصر شيخه وأمكن لقاؤه لشيخه ، فإن هذا يُكتفى منه بما يرويه عن شيخه بالعنعنة ، يكتفى عنه بهذا ، والأصـل فيه أنه سمع من شيخه وإن لم يثبت لنا بالنص أنه لقي شيخه وسمع منه لكن عاصره وأمكن لقاؤه وهو غير مدلس ، هذه الأمور كما يحكى مسلم كان العلماء يقبلون من هذا شأنه ولم يشترطوا ثبوت اللقاء فيه .
وإذا درست للبخاري ولأبي حاتم وأحمد بن حنبل وغيرهم تجدهم ينصون : فلان لم يسمع من فلان ، فلان لم يلق فلان ، فلا لم ... إلخ ، وهكذا ، مما يدل ــ والله أعلم ــ على أنهم يشترطون ثبوت اللقاء ، ولكن كما يقول الشيخ الألباني : هذا شرط كمال وليس هو شرط صحة ، شرط كمال فيه يكون أكمل وأقوى إذا ثبت لنا سماعه من شيخه وآخر غير مدلس وروى عن شيخه بالعنعنة وهو معاصر له وأمكن لقاؤه هذا صحيح وهذا صحيح ، لكن شرط البخاري أمكن وأقوى ، ولكن مسلمــًا لا يشترط فيه وجوب ثبوت اللقاء .

[ أسئلة وأجوبة مهمة في علوم الحديث ]

[موقع الشيخ على الإنترنت : فتوى رقم : 99 ]

للشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي