بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الخلائق خلقوا ليكونوا كسيدنا محمد ولكن الله أعطاهم الاختيار :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع من سورة الزُمَر، ومع الآية السابعة من هذه السورة، يقول الله جل جلاله:
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾
الله جل جلاله فيما رواه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن ربه، يقول:
((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً))
[ مسلم عن أبي ذر]
لو أن الخلائق منذ آدم وإلى يوم القيامة كانوا كسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام تقوى وصلاحاً، مع أنهم خلقوا ليكونوا كسيدنا محمد، ولكن الله أعطاهم الاختيار، لو أنهم فرضاً كانوا جميعاً كسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
((يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً ))
[ مسلم عن أبي ذر]
الإنسان وجوده ليس ذاتياً هو مفتقر للآخرين لكن الله تعالى لا يتعلَّق وجوده بجهةٍ أخرى:
تصور أعتى العتاة، أشد المجرمين إجراماً، أبعدهم عن الله عزَّ وجل، لو أن الخلائق كلها كانت كإبليس، قال:
((مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ ))
[ مسلم عن أبي ذر]
هذا الحديث القُدسي يفسر إلى حدٍ ما قوله تعالى:
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ﴾
الله عزَّ وجل غني، واحدٌ أحد، فردٌ صمد، وجوده لا يتعلَّق بغيره، أما نحن كبشر وجودنا معلقٌ بغيرنا، نحن مفتقرون إلى الله في وجودنا، وفي استمرار وجودنا، وفي سلامة وجودنا، وفي كمال وجودنا، بل الأعظم من ذلك في ضعفنا أننا مفتقرون إلى شخصٍ من بني جلدتنا، فالله عزَّ وجل أودع في الرجال حاجةً إلى نظائرهم، والعكس صحيح، إذاً الإنسان وجوده ليس ذاتياً، هو مفتقر، لكن الله عز وجل لا يتعلَّق وجوده بجهةٍ أخرى، لذلك:
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ﴾
الإيمان تصديق وإقبال أما الكفر فتكذيب وإعراض :
لكن من شأن الغني أنه يستغني، ومن شأن الغني أنه يتعالى، ومن شأن الغني أنه يتباعد، لكن الله عزَّ وجل مهما تحدثت عن قوته، وعن استغنائه، وعن علمه، وعن كماله، فهو قويٌ ولكنه كامل، لذلك أسماء الله الحسنى يتجه بعضها إلى أن يؤكِّد فكرةً أساسيةً وهي أن الله قويٌ، وغنيٌ، وخبيرٌ، وسميعٌ، وبصيرٌ، لا يعجزه شيء، ولا ينأى عن علمه شيء، وفي الوقت نفسه الله جلَّ جلاله رحيمٌ، وكريمٌ، وودودٌ، ولطيفٌ، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، إذاً أسماء الله الحسنى بعضها يؤكِّد قوته، وبعضها يؤكِّد كماله، إذاً فالله غني..
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ﴾
لكن لأنكم مطلوبون للرحمة، لأنه خلقكم ليسعدكم، لأنه خلقكم ليرحمكم.
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
[ سورة هود:119]
لأنه خلقهم لسعادةٍ أبديةٍ، لأنه خلقهم لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، لأنه خلقهم ليتفضَّل عليهم، لأنهم مطلوبون لرحمته لا يرضى لعباده الكفر.
﴿ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾
بعد فالسؤال الذي يطرح نفسه، ما الكفر؟ الكفر التكذيب والإعراض، التكذيب صفة عقلية، والإعراض صفة نفسية، بل إن الإعراض من نتائج التكذيب، إذا كذَّبْتَ أعرضت، إذا استنصحت إنساناً، ثم رأيت أنه لا يفقه شيئاً، هل تنفذ نصيحته؟ لا، الإعراض عن تنفيذ نصيحته من لوازم عدم تصديقك إيَّاه، فالكفر في حقيقته تكذيبٌ بما جاء عن الله عز وجل، والإنسان حينما يكذِّب بما جاء عن الله عزَّ وجل فمن لوازم التكذيب الإعراض، لكن ماذا يقابل الكفر؟ الإيمان، الإيمان تصديق والتفات وإقبال، الإيمان تصديق وإقبال، الكفر تكذيب وإعراض، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، فالآن شأن معظم المسلمين إيمانهم إيمان التمنِّي، هم غارقون في شهواتهم، غارقون في متعهم، بعيدون عن تطبيق منهج ربهم، ومع ذلك لسانهم كثيراً ما يرجو الله أن يدخلوا الجنة، يا رب أدخلنا الجنة، يا رب نحن عبيد إحسان ولسنا عبيد امتحان، يا رب لا تعاملنا على عملنا، هكذا المسلمون، العاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي.
ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي :
طبعاً هناك مظاهر إسلامية كأن تلبس لباساً إسلامية، وتمسك سبحة، وتعلِّق في بيتك آيات قرآنية، والله هذا شيء جميل، لكن يا ترى هل في تعاملك التجاري ربا؟ يا ترى علاقاتك الاجتماعية فيها اختلاط؟ يا ترى هل عندك ورع؟ هذا هو التحلي وذاك هو التمني، والنبي عليه الصلاة والسلام نفى أن يكون الإيمان تمنياً ونفى أن يكون تحلياً، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل.
الإيمان أيها الأخوة أن تؤمن بالله، أن تؤمن بوجوده، وأن تؤمن بوحدانيَّته، وأن تؤمن بكماله، والإيمان بالله عزَّ وجل يتأتَّى من جهدٍ، أجل جهد، فهل هناك إنسان ينال درجة دكتوراه وهو نائم؟ يقول لك: سنوات وسنوات وأنا أسهر الليالي؛ أدرس، وأطالع، وأراجع، وأدقق، وأمحِّص، وأكتب، وأراجع، وأعيد الكتابة، وأعرضها على أستاذي يقول لي: أعد هذا الفصل، ما نال لقب دكتور ولا أضاف على اسمه ( د ) أثناء التوقيع إلا بعد أن أمضى سنواتٍ وسنوات يقرأ، ويطالع، ويمحِّص، ويبحث، ويحصي.
هكذا الإيمان؟ لكن هذه الدكتوراه من أجل سنوات معدودة، الإنسان يعيش بعدها عدة سنوات؛ سنتين، ثلاثاً، خمساً، عشرَ سنواتٍ، ثلاثين وبعد ذلك يقال لك: المرحوم الدكتور فلان، فالدكتور يموت بعد ذلك، طبعاً درجة دكتوراه، أو ماجستير، أو ليسانس، أو شهادة عليا، ليست مرتبة علمية بسيطة، حتى الشهادة الثانوية ألا تحتاج إلى جُهد؟ تريد إيماناً، إيماناً يستحق صاحبه دخول الجنان، من دون جهد؟ من دون مجلس علم؟ من دون تفكُّر؟ من دون تأمُّل؟ من دون دراسة؟ من دون مطالعة؟ من دون تعلم؟! فهذا مستحيل.
لذلك من ظن أن الإيمان قضية تصديق فقط فهو مخطئ، هذا الإيمان التصديقي لا يقف على رجلين، لا يصمد أمام امرأةٍ جميلة، لا يصمُد أمام مبلغٍ كبير، أمام مبلغٍ من المال، يقولون لك: تداعى إيمانه، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عما يكون آخر الزمان قال لك:
((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً وَيُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ ))
[ أحمد عن أبي هريرة ]
اقرأ القرآن تجد أن حيزاً كبيراً جداً في آيات الله كلُّها موجهةٌ إلى إيقاظ الفكر :
هذا الإيمان التصديقي، والله أنا أسلمت والحمد لله، أشهد ألا إله إلا الله، من دون جهد، من دون بحث، من دون تمحيص، من دون تأمُّل، من دون تفكُّر، من دون طَلب علم، من دون أن تجلس على ركبتيك ساعةً أو أكثر في مجلس علم تستمع إلى تفسير كتاب الله، فالذي يضنُّ بنفسه أن يستمع إلى الحق أنَّى له أن يؤمن؟
على كلٍ من أجل أن تؤمن إما أن تستمع إلى الحق جاهزاً، بأن تحضر مجلس علم، وإما أن تقرأ، وإما أن تتأمَّل، لا بدَّ من طريقة بل من طرق عديدة لاكتساب المعارف، ربما كان أقرب إلى نفسك حضور مجالس العلم، وربما كان أقرب إلى نفسك قراءة القرآن الكريم وقراءة التفاسير لمعرفة معانيه الدقيقة، وربما كان أقرب إلى نفسك التفكُّر في خلق السماوات والأرض، على كلٍ الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، خلقه يدلُّ عليه آياته الكونية، وأفعاله تدل عليه آياته التكوينية، وكلامه يدلُّ عليه آياته القرآنية، اقرأ القرآن تجد أن حيزاً كبيراً جداً في آيات الله، كلُّها موجهةٌ إلى إيقاظ فكرك..
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
[ سورة آل عمران: 190-191 ]
الله أشار إلى التفكُّر.
أهمية العلم وقيمته :
الله أشار إلى التلاوة: يتلون كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾
[ سورة فاطر: 29 ]
وأشار إلى العلم.
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة النحل:43 ]
أشار إلى طُرق العلم الثلاثة، طريقة أخذه عن أهله..
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة النحل:43 ]
وطريقة التفكر في خلق السماوات والأرض، وطريقة طلبه مشافهةً، أو مطالعةً، أو تأملاً.
إذاً الإيمان يحتاج إلى جهد، ويحتاج إلى وقت، لكن ثمار الإيمان كبيرة جداً، المؤمن مستنير، إيمانه يحرسه عن أن يقع في انحرافٍ أو خروجٍ عن منهج الله عزَّ وجل، وإذا بقي على الطريق المستقيم سعد في الدنيا والآخرة، قال سيدنا علي رضي الله عنه:" يا بني العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق".
مرة سألت طُلاَّبي قلت لهم: من يذكر لي اسم رجلٍ غنيٍ عاش في عام ألفٍ وثمانمئة وسبعة وستين في دمشق وله عندي علامةٌ تامة، ففكروا ملياً، وانتظرت دقائق، فلم تنجدهم ذاكرتهم باسم رجلٍ غنيٍ عاش في تلك الفترة في دمشق، فلم يجيبوا، فقلت لهم: وأنا معكم لا أعرف، لكن سيدنا علي يقول: " يا بني مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ".
العلم أساس العمل والعمل أساس السعادة :
لا يرفعك إلا طلب العلم، ولا يعلي شأنك إلا أن تكون عالماً، والله جل جلاله لم يعتمد أيَّةَ قيمةً اعتمدها الناس في التفاضل فيما بينهم، هناك قيَم كثيرة، المال قيمة، والصحة قيمة، والشأن قيمة، والوسامة قيمة، والغنى قيمة، هذه قيمٌ زائلة؛ ولكن الله سبحانه وتعالى اعتمد قيمة العلم، قال:
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة الزمر: 9 ]
وقال:
﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾
[ سورة طه: 114 ]
فأنت حينما تحضُر مجلس العلم، أو حينما تتلو كتاب الله، أو حينما تفكِّر في خلق السماوات والأرض، فأنت في طريق العلم الموصل إلى الله.
ويجب أن تعلم أيها الأخُ الكريم علم اليقين أن هناك أشياء ثلاثة توصلك إلى الله، أولها العلم، وثانيها العلم، وثالثها العلم، أي العلم وحده ولا شيء آخر إلا العلم، لأن العلم أساس العمل، والعمل أساس السعادة، ثلاث مراحل، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِي ﴾
[ سورة الذاريات: 56]
العبادة طاعة أساسها معرفة تفضي إلى سعادة، الهدف الكبير أن تسعد بالقُرب من الله عزَّ وجل، ولن تسعد بقربه إلا إذا كنت عند نهيه وأمره، ولن تطبِّق أمره وتتنحَّى عن نهيه إلا إذا عرفته، لهذا ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِي ﴾
[ سورة الذاريات: 56]
ما استقرّ الإيمان في قلب مؤمن إلا أكَّد نفسه بالعمل الصالح :
إذاً نحن يجب أن نؤمن حقاً، أما الإيمان التصديقي فهو إيمان العجائز، إن نفع صاحبه في حينٍ من الدهر إلا أنه الآن لا ينفع، لماذا؟ لكثرة الشهوات، والفِتَن، والضلالات، والموبقات، والضغوط، والإغراءات، نحن في آخر الزمان، القابض على دينه كالقابض على الجمر، أجره كأجر سبعين، قالوا: منا أم منهم؟ قال: بل منكم، قالوا: ولم؟ قال: لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون.
أي أن الإيمان التصديقي من دون بحث، من دون دَرس، من دون تأمُّل، من دون تفكُّر، من دون طلب علم، من دون بذل جهد، هذا الإيمان التصديقي لا يقف أمام الشهوات، ولا يكفي، ولذلك تفاجأ أن كثيراً من المسلمين يقعون في أعمالٍ منحرفةٍ أشدَّ الانحراف، يقلِّدون أهل الكفر؛ في حفلاتهم، وفي أحزانهم، وفي تجارتهم، وفي حركاتهم، وفي بيعهم وشرائهم، لماذا؟ لضعف إيمانهم، في زمن الفِتَن، وزمن الشبهات، وزمن الضلالات، وزمن الضغوط، وزمن الإغراءات، لا يستطيع الإيمان الشكلي، ولا الإيمان العفوي، ولا الإيمان التصديقي، ولا إيمان التقليد أن يعصمك من المعصية، أساساً في ظروف، الانعطافات الخطيرة في المجتمعات لن تجد حلاً وسطاً، إما أن تؤمن أدق الإيمان، وأعمق الإيمان، وأشد الإيمان كي تنجو؛ وإما أن تنساق مع التيَّار الذي ينتهي إلى جهنم وبئس المصير.
فالقضية ليست سهلة لأن المعاصي حولك من كل جانب، والإغراءات تلوح برّاقة من كل جهة، يكفي أن تخرج من بيتك إلى عملك، هناك فتنٌ ما بعدها فتن في الطريق، ما الذي يجعلك تغضُّ بصرك عن محارم الله؟ هو الإيمان، ما الذي يحملك على أن تكون صادقاً؟ هو الإيمان، ما الذي يحملك على أن تتحرى الحلال في كسبك؟ هو الإيمان، فالإيمان أساس الفضائل، ولجام الرذائل، وقِوام الضمائر، وأساس العزائم، وبلسم الصبر عند الشدائد، الإيمان هو كل شيء، الإيمان تصديق، ومع التصديق إقبال، وبعد الإقبال عمل صالح، ما استقر الإيمان في قلب مؤمن إلا أكَّد نفسه بالعمل الصالح، لذلك ما من آيةٍ في كتاب الله في الأعَمّ الأغلب ذَكَرَت الإيمان إلا واتبعته بالعمل الصالح..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾
[ سورة البينة الآية: 7 ]
لأن الإيمان من دون عمل كالشجر بلا ثمر، الإيمان بلا عمل جنون، والعمل بلا إيمان لا يكون، فنحن نُريد أن نؤمن، فعلينا إذاً أن نخصِّصَ وقتاً للإيمان، وقتاً لطلب العلم، وقتاً لقراءة القرآن، وقتاً كما أمرنا الله عزَّ وجل للتفكُّر في الأكوان.
طريق الإيمان هو طريق التفكر :
كيف تعرف الله؟ الله جل جلاله لا تدركه الأبصار، مستحيل، فحواسك أعجز من أن تعرفه..
﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً ﴾
[ سورة الأعراف: 143 ]
إذاً، مستحيلٌ بهذا المخلوق الحادث المادي العاجز أن يرى ذات الله عزَّ وجل، لكن كل ما حولك في الكون يدلُّ عليه، فطريق الإيمان هو طريق التفكر، التفكُّر له جانب، بعد أن تتفكَّر وتوقن بوجوده، وبكماله، وبوحدانيته، عندئذٍ يتيسر لك أن تعبده، ويأتي القرآن يقول لك: افعل ولا تفعل، القرآن له وظيفة، والكون لو وظيفة، الكون يدعوك إلى الإيمان به، والقرآن يدلك على طريقة عبادته، فأنت بالكون تعرفه وبالقرآن تعبده، وخلاف ذلك فهلاكٌ محقق، لأنه ليس أمامك حل وسط، فو الذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
الناس رجلان، تقسيمات البشر الآن لا تعدُّ ولا تحصى، يقول لك: عرق آري، عرق سامي، هذا من الأنجلو ساكسون، هذا أوربي، هذا أسيوي، هذا إفريقي، هذه شعوب دول الشمال دول الجنوب، الدول المتقدمة والدول المتأخرة، القوى العاملة القوى المستغلَّة، تقسيمات لا تنتهي ولا تعد ولا تحصى، وهذا منتمٍ وهذا غير منتمٍ، وهذا خلفيته كذا، وهذا انتماؤه كذا، كن على صعيد الحقيقة لا تجد إلا تقسيمين؛ مؤمن وكافر، مصدق مقبل، مكذب مدبر، متصل منضبط، محسن منقطع، متفلِّت مسيء.
((فَالنَّاسُ رَجُلانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ))
[الترمذي ابن عمر ]
التقابل في القرآن الكريم :
الناس رجلان ليس هناك تقسيم ثالث، مؤمنٌ فهو على الطريق الصحيح، على المنهج الصحيح، مؤمن يحقق الهدف من وجوده، يسعى إلى طاعة ربه. لذلك التقابل في القرآن: الذين آمنوا والذين كفروا، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذين كفروا اجترحوا السيئات، وربنا عزَّ وجل يطمئن عباده، فيقول لك:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
[ سورة الجاثية: 21 ]
أهكذا تظن أيُّها الإنسان؟ هذه سذاجة، منتهى السذاجة، منتهى الغباء، منتهى الجهل أن تظن أن الذي آمن بالله عزَّ وجل، وتعرَّف إلى أمره ونهيه، وطبَّق أمره واجتنب نهيه، وتقرَّب إليه بالأعمال الصالحة، ووجده الله حيث أمره وفقده حيث نهاه، من السذاجة أن يعامل هذا المؤمن كما يعامل الفاسق، كما يعامل الكافر، كما يعامل المسيء، كما يعامل العاصي، فهذا الظن من السذاجة..
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
[ سورة الجاثية: 21 ]
مصادر الإيمان ثلاثة والطرائق ثلاث و هذا هو الإيمان :
الله عزَّ وجل قال في آية أخرى:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾
[ سورة العلق: 9-10]
هذا الذي ينهى عن الصلاة، هذا الذي يحارب دين الله عزَّ وجل، هذا الذي يريد أن يطفئ نور الله، دعك من كلامه، دعك من فلسفته، دعك من مَنطقه، دعك من حُججه، دعك من منطلقاته، انظر إلى أفعاله تجد الدناءة، والأنانية، والتناقُض، والكَيل بمكيالين، هذا الإنسان هو أقل من أن تلتفت إليه، هو أحقر من أن تصغي إلى كلامه.
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾
[ سورة العلق: 9-10]
﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى*أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ﴾
[ سورة العلق: 11-12]
انظر إلى شهامته، انظر إلى ورعه، انظر إلى رحمته، انظر إلى مروءته، انظر إلى عطفه، انظر إلى لطفه، انظر إلى صدقه، انظر إلى إنصافه هكذا.
أيها الأخوة، تقسيمان، الناس رجلان مؤمن بالله؛ إما من طريق آياته الكونية، أو من خلال آياته التكوينية، أو بفعل آياته القرآنية، هذه المصادر، الطرائق: إما تفكراً، وإما دراسةً، وإما استماعاً، يمكنك أن تستمع للحق جاهزاً، طبخة جاهزة، يمكن أن تعدها أنت، تتأمَّل، فالمصادر ثلاثة، آياته الكونية والتكوينية والقرآنية، الطرائق ثلاثٌ؛ المدارسة، الاستماع، التأمُّل، هذا هو الإيمان، فالإيمان جهد، الإيمان معرفة، الإيمان بحث، الإيمان يقين..
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأموات قلت: إليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسرٍ أو صحّ قولي فالخسار عليكما
* * *
قول الشاعر هذا إيمان مع تردد وارتياب لا يكون، هذا ليس إيماناً.
الإيمان ليس معه ارتياب وتردد بل هو يقين :
الإيمان ليس معه ارتياب وتردد، ليس معه ظَن، بل هو يقين:
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾
[ سورة التكاثر: 5-6]
ولا يقول:
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾
[ سورة التكاثر: 5-6]
عندنا علم اليقين، وعندنا عين اليقين، عندنا حق اليقين، علم اليقين: أن ترى دخاناً وراء جدار، فتحكم يقيناً وأنت بهذا تحكم مئة بالمئة أن هناك ناراً، إذ لا دخان بلا نار، هذا علم اليقين. فإذا تحرَّكت إلى خلف الجدار ورأيت بأم عينك لهيب النار، هذا ما اسمه؟ هذا عين اليقين. فإذا لا سمح الله ولا قدَّر أصابت النار جلد الإنسان، وصاح من شدة ألمه، هذه حق اليقين؛ علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾
[ سورة التكاثر: 5-6]
لذلك، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً ما من بيتٍ إلا وملك الموت يقف فيه في اليوم خمس مرات فإذا رأى أن العبد قد انقطع رزقه وانقضى أجله ألقى عليه غم الموت فغشيته سكراته فمن أهل البيت الضاربة وجهها والممزقة ثوبها والصارخة لويلها، يقول ملك الموت: مم الجزع وفيم الفزع، ما أذهبت لواحدٍ منكم رزقاً ولا قربت له أجلاً، وإن لي فيكم لعودة ثم عودة حتى لا أبقي منكم أحداً، فو الذي نفس محمد بيده لو يرون مكانه ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميِّتهم ولبكوا على أنفسهم.
الله عز وجل قدَّم الموت على الحياة لا تقديماً زمنياً بل تقديماً رُتَبِيَّاً :
أحياناً يتوفَّى للإنسان قريب، هذا القريب حالته المادية جيدة، من وفاته جاءهم ميراث ضخم حل بعض مشكلاتهم وتنفرج أمورهم، فينسوا أنهم سيموتون نتيجة، وتشغلهم دنياهم، ثم يفاجئهم بالموت..
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جـنازة فـاعلم بأنك بعدها محمـول
* * *
أيها الأخوة، التفكُّر في الموت ليس تشاؤماً، هو عين الواقعية، أحياناً الإنسان يقول لك: أنا واقعي وينسى أنه سيموت، أنا واقعي، أنا رجل علم ويتناسى الموت، العلم يقول لك: لا بُدَّ من أن تموت، والواقع يؤكِّد ذلك، وما دام أن هذا أخطر حدث بحياتك، أجل أخطر حدث نهاية الحياة فلا بدَّ من الاستعداد له، بل إن الله عز وجل في القرآن الكريم قدَّم الموت على الحياة، لا لأن الموت قبل الحياة، الموت بعد الحياة، يحيي ويميت، هذا الترتيب الزمني، لكن قدَّم الموت على الحياة لا تقديماً زمنياً بل تقديماً رُتَبِيَّاً، قال:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾
[ سورة الملك: 2 ]
انفتاح العام الدراسي شيء لطيف جداً، الخيارات كلُّها أمام الطالب؛ لكن أداء الامتحان شيء مصيري، ليس هناك حالة ثالثة، إما ناجح وإما راسب، فلذلك أخطر حدث بحياة الإنسان هو انتهاء حياته، لأن حياته رأسمالِه الوحيد، حياته سبب سعادته الأبدية أو شقائه الأبدي، فأن تنتهي الحياة على نحوٍ معيَّن هذا شيء خطير جداً، فلذلك المؤمن يعرف أن أثمن شيءٍ يملكه هو الوقت.
نحن الآن مدعوّون إلى طاعة الله فإن لم نستجب فالله عزَّ وجل يستبدل قوماً غيرنا:
الإيمان الإيْمان الإِيمان أيها الأخوة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾
[ سورة التوبة: 38 ]
متاعٌ قليل، العظيم يقول لك: متاعٌ قليل:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
[ سورة القصص: 61 ]
﴿ إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
[ سورة التوبة: 39 ]
نحن الآن مدعوّون إلى طاعة الله، فإن لم نستجب فالله عزَّ وجل يستبدل قوماً غيرنا، هذه المعاني كلها ساقتها لكم الآية:
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾
لا تمُنّ على الله إسلامك ولا تمن عليه إيمانك هو يمنُّ عليك أن هداك للإسلام :
قال تعالى:
﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾
[ سورة الحجرات: 17]
لا تمُنّ على الله إسلامك، ولا تمن عليه إيمانك، هو يمنُّ عليك أن هداك للإسلام.
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ﴾
يقول بعضهم: أأنت تدعوني لأصلي؟ فماذا جاءنا من الصلاة، ويقول آخرون: وها نحن قد صلينا فماذا له عندنا أيضاً؟ هذا كلام الناس، الله عزَّ وجل غني عنك، وعن صلاتك، وعن صيامك، وعن حجك، وعن زكاتك، وعن عبادتك كلها، وعن طاعتك:
﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾
[ سورة الروم: 44]
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾
[ سورة فصلت الآية: 46 ]
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ﴾
لكن لكماله، ورحمته بكم، وحرصه على سعادتكم، ولأنه خلقكم ليسعدكم، خلقكم ليرحمكم.
الله خلق الكون وسخره للإنسان تسخير تعريفٍ ليؤمن بالله وتكريم ليشكره على نعمه:
قال تعالى:
﴿ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾
فأنت مخلوق من أجل أن يسعدك الله، فإذا أنت قبلت هذا العرض العظيم، وسرت في طريقه القَويم، وسعدت بإيمانك، فقد حققت مراد الله من خلقك، إذاً يرضى عنك، ويشكر لك إيمانك به واستقامتك على أمره:
﴿ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾
ولذلك فالله عزَّ وجل لما خلق الكون، خلق الكون وسخره لهذا الإنسان تسخير تعريفٍ وتكريم، فردّ فعل التعريف أن تؤمن به، ورد فعل التكريم أن تشكره على نعمائه، فإذا آمنت به وشكرته، فقد حققت المُراد من وجودك، إذاً ينتهي العلاج، وهذا مصداق قوله تعالى:
﴿ مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾
[ سورة النساء: 174 ]
لذلك دقق الفكر والنظر: أنه إذا جاءت الأمور على خلاف ما تريد، فهذه إشارة من الله إلى أنَّك لست على الخط الصحيح، فالخط الصحيح أن تؤمن وأن تشكر، والشكر عمل، والدليل قول الله عز وجل:
﴿ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْراً ﴾
[ سورة سبأ: 13 ]
يجب أن نؤمن وأن نعمل صالحاً شكراً لله على منحة الوجود والإمداد والهداية :
إذاً الخط الصحيح والمنهج القويم أن تؤمن وأن تعمل صالحاً شكراً لله على منحة الوجود والإمداد والهداية، إن لم تكن كذلك فقد خرجت عن الطريق الصحيح، وعندئذ ليتحمَّل الإنسان ما يسوقه الله له، أعرابيٌ جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي أَمْراً فِي الإِسْلَامِ لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَداً بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ...))
[ مسند أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ ]
نظر الأعرابي وقال: أريد أخف من ذلك. فقال له: إذاً فاستعد للبلاء، أمر سهل أن تطبق عملياً، أحد الناس قال لمهندس: الحديد المخصص للبناء كثير، أريده أقل. لا مانع إذاً فتهيَّأ لسقوط البناء، هذا علم، الإسمنت له حجم مُعين والحديد له كمية معينة، تريد أقل من الكمية فلا مانع ولكن استعد لهبوط البناء أن يقع فوق رؤوس أصحابه، علم، قال: أريد أخف من ذلك. فقال له: إذاً فاستعد للبلاء. إذاً نحن إذا تعاملنا مع الله عزَّ وجل لنتعامل وفق القرآن الكريم وعندها نرتاح، قواعد واضحة، ربنا عزَّ وجل التعامل معه تعامل بكلام ثابت، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ﴾
[ سورة إبراهيم: 27 ]
التعامل مع أصحاب الأمزجة المتغيِّرة شيء متعب جداً، لا تعرفه على أيِّ حال هو يتصرف، لكن ربنا عزَّ وجل كلامه واضح، قوانينه واضحة، قرآنه واضح.
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
[ سورة النحل: 97 ]
إن اتبعت هدى الله لا يضل عقلك ولا تشقى نفسك :
الآية واضحة مثل الشمس.
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾
[ سورة يونس: 62-63 ]
آمن بالله واستقم على أمره.
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
[ سورة طه:124]
انتهى الأمر:
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
[ سورة طه: 123 ]
لا يضل عقله ولا تشقى نفسه.
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 38 ]
شيء عظيم، إن اتبعت هدى الله عزَّ وجل لا يضل عقلك، ولا تشقى نفسك، ولا تخف مما هو آت، ولا تندم على شيءٍ فات، فهل هناك أرقى من هذا، هذا كلام الله عز وجل.
الشكر قبله إيمان والإعراض قبله كفر :
إذاً:
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾
الشكر قبله إيمان والإعراض قبله كفر، والكفر تكذيبٌ وإعراض، والإيمان تصديقٌ وإقبال، أجل تكذيب وإعراض كفر، تصديقٌ وإقبالٌ وإيمان، لذلك فالله عزَّ وجل قال في بعض الأحاديث القدسية فيما رواه النبي عليه الصلاة والسلام:
((لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضال الواجد، ومن الظمآن الوارد))
[الجامع الصغير عن أبي هريرة]
والنبي حدثنا بقصة رمزية، أن أعرابياً ركب ناقته وعليها شرابه وزاده، وانطلق بها في الصحراء، أراد أن يستريح في ظل نخلةٍ فأفاق فلم يجد الناقة، أيقن بالهلاك لأن عليها زاده وشرابه، فجلس يبكي حتى غفلَت عينه، ثم أفاق فرأى الناقة، فمن شدة فرحه قال: " يا ربي أنا ربك وأنت عبدي ". فقال عليه الصلاة والسلام: لله أفرح بتوبة عبده من ذلك البدوي بناقته.
(( لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ فَطَلَبَهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَتَسَجَّى لِلْمَوْتِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعَ وَجْبَةَ الرَّاحِلَةِ حِينَ بَرَكَتْ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ فَإِذَا هُوَ بِرَاحِلَتِهِ ))
[ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]
﴿ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾
لذلك:
(( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ ))
[ أحمد عَنْ عقبة بن عامرِ]
(( إن الله ليباهي الملائكة بالشاب المؤمن انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي))
[ أخرجه ابن السني الديلمي في مسند الفردوس عن طلحة ]
السكينة التي تتنزَّل على قلب المؤمنين خيرٌ من الدنيا وما فيها :
والله عزَّ وجل قال:
﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾
[ سورة المائدة: 54 ]
فالإنسان يفتخر بمحبة إنسان قوي، يقول لك: انظر هذه صورة لي معه، تعشينا مع بعض، زارني بالبيت، يعلِّق صورته على الحائط، تفتخر بإنسان ولا تفتخر بالواحد الديان!! لكن الله قال عن قوم:
﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾
[ سورة المائدة: 54 ]
الله يحبك، قال:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾
[ سورة مريم: 96 ]
هو يوادَّك، الله ودود، كنت في حفل قران، ذكرت لأخ جالس إلى جنبي نص الدعاء؛ يا رب ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ هذا الذي لم يعرف الله عزَّ وجل، لو ملك أغلى ثروةً في العالم، سيأتي الموت وتنتهي هذه الثروة إلى ورثته، لو كنت أقوى رجل، لو كنت أغنى رجل، لو كنت أذكى رجل، لو كنت أكثر الناس حظوظاً في الدنيا، يأتي الموت فينهي كل شيء، فمن هو السعيد؟ الذي عرف الله عزَّ وجل، لذلك إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه؛ ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين. هذه السكينة التي تتنزَّل على قلب المؤمنين خيرٌ من الدنيا وما فيها.
الآية التالية قاعدة أساسية في تعامل الله مع خلقه :
قال تعالى:
﴿ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾
هذه قاعدة أساسية في تعامل الله مع خلقه، كل إنسان محاسَب على عمله، لا يؤخذ إنسانٌ بجريرة إنسان، لا تحمل نفسٌ ذنب نفسٍ أخرى، أبداً، بل كل نفس بما كسبت رهينة.
﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾
النبي قال:
(( يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً ))
[ أخرجه أحمد و الشيخان و الترمذي عن أبي هريرة]
لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه، قال عليه الصلاة والسلام مخاطباً أصحابه:
(( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا ))
[ متفق عليه عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]
إن صحَّت علاقتك مع الله هذا هو الإيمان، علاقتك مع الله فقط، فراقب الله عزَّ وجل في خلوتك وفي جلوتك، في سرك وفي جهرك، في بيتك وفي طريقك، وفي عملك، وفي بيعك وشرائك، هذا هو الإيمان.
آيات تؤكد أن أفضل إيمان المرء أن تعلم أن الله معك حيثما كنت :
قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
[سورة النساء:1]
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾
[ سورة غافر: 19 ]
﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾
[ سورة طه: 7 ]
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾
[ سورة الأنفال: 24 ]
﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾
[ سورة ق: 16 ]
أفضل إيمان المرء أن تعلم أن الله معك حيثما كنت.
أدلة من القرآن الكريم تؤكد أن كل إنسان يحاسَب على عمله :
إذاً:
﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾
كل إنسان محاسب، والله هناك أدلة، فامرأة فرعون قالت:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
[ سورة التحريم: 11]
قد تكون امرأةٌ في أعلى درجات الإيمان ولها زوجٌ فاسقٌ فاجر، والعكس صحيح، فاعتبره على كلٍ:
﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾
(( لا منكم، ولا منكم، سلمان منَّا أهل البيت ))
[ الحاكم والطبراني عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده ]
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾
[ سورة المسد: 1]
عمه، عم النبي،
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ ﴾
سلمان الفارسي (سلمان منا آل البيت) هذا الإسلام، فالإسلام ليس فيه تفرقة.
من أيقن أن الله يعلم وسيحاسبه لا بد من أن يستقيم على أمر الله :
قال تعالى:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 81-82]
نعمة الأمن هذه من نصيب الذي عرف الله عزَّ وجل واستقام على أمره ولم يقع في ظلمٍ دقيقٍ أو جليل.
﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
أخواننا الكرام،إذا الإنسان أيقن أن الله يعلم، وأيقن أنه سوف يحْشَرُ إليه، وأيقن أنه سيحاسبه، لا بد من أن يستقيم على أمر الله، أنت إذا أيقنت أن بشراً يعلم ما عندك: فإذا استوردت بضاعة، بعثت نسخة للمالية، وتقدم حساباتك وتذكر الصفقة، لأنهم يعرفونها، إذا أغفلتها تعرض تجارتك لخطر، أنت تتعامل مع إنسان أخذ صورة عن استيرادك، وتعترف بكل ما يتعلق بالصفقة، لماذا؟ لأنك موقن أنه يعلم وسوف يحاسب، وقدير، فربنا عزَّ وجل قال:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾
[ سورة الطلاق: 12 ]
إذا آمنت أن علمه يطولك، وأنك سوف تنتهي إليه، وسوف يحاسبك، فتستقيم على أمره، لذلك الناس يتعجبون من المؤمن، لماذا هو مستقيم إلى هذه الدرجة؟ بعضهم يقول له: لا تحتاج لكل هذا!! العَجَب بالعكس، عليهم أن يعجبوا ممن يعصي الله، كيف يعصيه؟! كيف سيقابله؟ كيف سيقف بين يديه؟ ماذا يقول له؟!
﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
[ سورة يس: 65 ]
يوم القيامة الأمر كلُّه مسجل علينا والأعمال تعرض على صاحبها بكل تفاصيلها :
لذلك المصير إليه:
﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
عملك، حجم عملك، نواياك، مؤدَّى عملك، مضاعفات عملك، آثار عملك، كله في علم الله عزَّ وجل، فإن قلت: أنا لست متذكراً.
﴿ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾
[ سورة المجادلة: 6 ]
احذر فليس لك أن تنسى، والأمر كلُّه مسجل عليك، والأعمال تعرض على صاحبها بكل تفاصيلها، قال بعضهم:
﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾
[ سورة المطففين: 7 ]
﴿ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ﴾
[ سورة المطففين: 9 ]
ما معنى مرقوم؟ أي أن الكتاب مرقَّم، ولا تستطيع أن تخفي صفحة منه، هذا معنى، والمعنى الثاني من الرَّقْم وهي الصورة، المخالفة مع صورتها، الدفتر مرقَّم والمخالفات مصورة.
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾
[ سورة الإسراء: 14 ]
الإنسان يريد من الله الكرامة والله يطلب منه الاستقامة :
لذلك أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً، أرجحكم عقلاً من كان وقَّافاً عند كلام الله، أنت تريد من الله الكرامة وهو يطلب منك الاستقامة.
﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾
يعلم نفسك على حقيقتها.
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ ﴾
معنى (وازرة) من الوزر وهو الحمل، (لا تزر) لا تحمل نفسٌ حاملةٌ حمل غيرها، هذا المعنى الدقيق. لا تحمل نفسٌ حاملةٌ حمل غيرها، كل إنسان محاسب على عمله.
في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نعرض صفة الإنسان:
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾
والحمد لله رب العالمين