بسم الله الرحمن الرحيم

لقد شرف وكرم الله سبحانه وتعالى الإنسان بإستخلافه في الأرض، قال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ )، وقال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )، وهذه الخلافة تقوم على أساس الإصلاح والأمر بالمعروف وتحقيق العدل بين الناس فيما يقع بينهم من مظالم ودفع الفساد والظلم عن الناس والنهي عن الفحشاء والمنكر لقوله تعالى (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )، ولكن هذه المهمة العظيمة والنبيلة يعوق تحقيقها ثلاث معوقات هي:

أ) شر وسوسة الشيطان: فإبليس اللعين يقعد للإنسان في كل طريق يثبطه عن الخير ويصده عنه ويدعوه إلى الشر ويُزينه له، قال تعالى ( لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ).

ب) شر حزب الشيطان: فحزب الشيطان لا يتوقف عن معاداة المسلمين بقصد قتلهم وإيذائهم ليصدوهم عن سبيل الله أو يردوهم عن سبيل الله إذا إستطاعوا ذلك ولكنهم خاسرون في الدنيا والآخرة لأنه من يشاق الله ورُسلَه فالله شديد العقاب، قال تعالى (الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)، وقال تعالى (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

ت) ضعف الإنسان: فالإنسان لا يملك القوة المُطلقة في دفع الضرر والشر كله عنه وجلب الخيرلنفسه، قال تعالى (إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ )، فالآية الكريمة تُشير إلى أنه كيف أنجى الله سبحانه و تعالى سيدنا عيسى عليه السلام من القتل على أيدي اليهود لعنهم الله، وقال تعالى ( قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى* قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) فالآيات الكريمة تُشير إلى خوف سيدنا موسى وهارون عليهم السلام من فرعون أن يعاجلهما بالعقوبة أو أن يتمرد على الحق، فطمئنهما الله سبحانه و تعالى بأنه يحفظهما من كل سوء أو مكروه، وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)، فالآية الكريمة تُشير إلى أن الله عزوجل يأمر الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالة الإسلام ويطمئنه بأنه سبحانه و تعالى يمنعه ويحميه من أذى وضرر المُكذبين الكافرين. وكذلك الإنسان ضعيف أمام المرض، قال تعالى (وإذا مرضت فهو يشفين) فالمرض قد ينهي حياة المؤمن، والإنسان ضعيف أمام الجوع والعطش، قال تعالى (والذي هو يطعمني ويسقين) فقد يشغله الجوع والعطش عن مهمته الأساسية في إقامة شرع الله في الأرض، والإنسان ضعيف أمام الشهوات، قال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) فقد يدفعه ضعفه أمام الشهوات إلى معصية الله عزوجل وإلى الإبتعاد عنه سبحانه وتعالى فيضيع الإنسان أمانة الخلافة في الأرض ويخونها بذلك فيغضب الله عزوجل عليه ويُعذبه في الدنيا والآخرة، وغيرها الكثير من أوجه ضعف الإنسان.

ولكن يجب الإشارة إلى إعتقاد أن الإنسان يحكم الأرض نيابة عن الله عزوجل ويقوم مقامه سبحانه وتعالى في ذلك هو إعتقاد غير صحيح وغير دقيق، لأن الإنسان هو مُستخلف في حُكم الأرض ومُؤتمن على حُكم الأرض ولكن ليس بشكل مُطلق، قال تعالى (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، وقال تعالى (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ )، فهنالك قيود وضوابط تحكم وتنظم حكم وخلافة الإنسان في الأرض فإذا ما خالفها الإنسان أُعتبر خائناً للأمانة واستوجب بذلك العقاب من الله عزوجل وكذلك سبحانه وتعالى يسمع ويُبصر ويُدبر شؤون الكون كلها فالله قضى وقدر كل شيء في علمه السابق قبل أن يكون، قال تعالى (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء)، مما يعني أنه سبحانه وتعالى يجلب الخير لمن يشاء من عباده عامةً والمؤمنين خاصةً ويدفع الشر عنهم وفق مشيئته وحكمته عزوجل، قال تعالى (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، قال تعالى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز)، مما يفيد بكل وضوح بأن الله عزوجل لا يُعطي الإنسان الحرية المطلقة في التصرف في شؤون العباد والخلق على هذه الأرض.

وخلاصة القول، أن إستخلاف الله للإنسان في الأرض هو يقع تحت تكليف الأمانة التي حَملَها الإنسان وإعتذرت عن قبولها مخلوقات أعظم من خلق الإنسان وهي السموات والأرض والجبال، قال تعالى (إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، بالرغم من أنها عظيمة في الأجر ولكن لأنها ثقيلة في التكليف وهذه الأمانة هي نفسها العهد والميثاق الذي أخذه الإنسان على نفسه في عالم الذر بالإقرار بوحدانية وربوبية وألوهية الله عزوجل وبالإلتزام بعبادته سبحانه وتعالى في الدار الدنيا، قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ )، فالأمانة هي الأصل لأنها تعم وتشمل جميع وظائف الدين كما قال القرطبي في تفسيره بينما الخلافة في الأرض هي الفرع فهي تشمل الإصلاح بين الناس وتحقيق العدل بينهم ودفع الظلم والفساد عنهم والأمر بالمعروف والنهي عن الفحشاء والمنكر وهذا كُله يُعتبر جزء من وظائف الدين لأن الدين هو أعم من ذلك لشموله العقيدة والإيمان والتصديق بالغيب والطاعة والإلتزام بالعبادة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.