يذكر بعد خروج الحاج في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : ذهب الدثور من الأموال بالدرجات العلى و النعيم المقيم يصلون كما نصلي و يصومون كما نصوم و لهم فضل أموال يحجون بها و يعتمرون و يجاهدون و يتصدقون ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أحدثكم بمال لو أخذتم به لحقتم من سبقكم و لم يدرككم أحد بعدكم و كنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله : تسبحون و تحمدون و تكبرون خلف كل صلاة ثلاثا و ثلاثين ] و في المسند و سنن النسائي [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قلنا يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يحجون و لا نحج و يجاهدون و لا نجاهد و بكذا و بكذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أدلكم على شيء إن أخذتم به جئتم من أفضل ما يجيء به أحد منهم : أن تكبروا الله أربع و ثلاثين و تسبحوه ثلاثا و ثلاثين و تحمدوه ثلاثا و ثلاثين في دبر كل صلاة ] المال لمن استعان به على طاعة الله و أنفقه في سبل الخيرات القربة إلى الله سبب موصل له إلى الله و هو لمن أنفقه في معاصي الله و استعان به على نيل أغراضه المحرمة أو اشتغل به عن طاعة الله قاطع له عن الله كما قال أبو سليمان الداراني : الدنيا حجاب عن الله لأعدائه و مطية موصلة إليه لأوليائه فسبحان من جعل سببا واحدا للإتصال به و الإنقطاع عنه و قد مدح الله في كتابه القسم الأول و ذم القسم الثاني فقال في مدح الأولين : { الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا و علانية فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون } و قال : { إن الذين يتلون كتاب الله و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم سرا و علانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم و يزيدهم من فضله إنه غفور شكور } و الآيات في المعنى كثيرة جدا و قال في ذم الآخرين : { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله و من يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * و أنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق و أكن من الصالحين } و قد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس أحد لا يؤتي زكاة ماله إلا سأل الرجعة عند الموت ثم تلا هذه الآية و أخبر عن أهل النار الذين يؤتي أحدهم كتابه بشماله أنه يقول : { ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه } و الأحاديث في مدح من أنفق ماله في سبل الخيرات و في ذم من لم يؤد حق الله منه كثيرة جدا و قد صلى الله عليه و سلم : [ نعم المال الصالح للرجل الصالح ] و قال : [ الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا و هكذا عن يمينه و عن شماله و من خلفه و قليل ما هم ] و قال : [ إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه و وضعه في حقه فنعم المعونة هو و إن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل و لا يشبع ] فالمؤمن الذي يأخذ المال من حقه و يضعه في حقه فله أجر ذلك كله و كلما أنفق منه يبتغي به وجه الله فهو له صدقة يؤجر عليها حتى ما يطعم نفسه فهو له صدقة و ما يطعم ولده فهو له صدقة و ما يطعم أهله فهو له صدقة و ما يطعم خادمه فهو له صدقة و كان عامة أهل الأموال من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم من هذا القسم قال أبو سليمان : كان عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف خازنين من خزان الله تعالى في أرضه ينفقان في طاعته و كانت معاملتهم لله بقلوبهما و رأس المنفقين أموالهم في سبيل الله من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه و فيه نزلت هذه الآية : { و سيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * و ما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * و لسوف يرضى } و في صحيح الحاكم عن ابن الزبير قال : قال أبو قحافة لأبي بكر : أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك و يقومون دونك فقال أبو بكر : يا أبت إني إنما أريد ما أريد قيل : و إنما أنزلت هذه الآيات فيه : { فأما من أعطى و اتقى } إلى آخر السورة و روي من وجه آخر عن ابن الزبير و خرجه الإسماعيلي و لفظه : أن أبا بكر كان يبتاع الضعفة فيعتقهم فقال له أبو قحافة : يا بني لو ابتعت من يمنع ظهرك فقال : يا أبت منع ظهري أريد و نزلت فيه : { و سيجنبها الأتقى } إلى آخر السورة و خرج أبو داود و الترمذي [ من حديث عمر قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نتصدق و وافق ذلك عندي مالا فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما قال : فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله و إن أبا بكر أتى بكل ما عنده فقال : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله و رسوله فقلت : لا أسابقه إلى شيء أبدا ] و خرج الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر فبكى أبو بكر و قال : هل أنا و مالي إلا لك يا رسول الله ] و خرجه الترمذي بدون هذه الزيادة في آخره و كان من المنفقين أموالهم في سبيل الله عثمان بن عفان ففي الترمذي [ عن عبد الرحمن بن خباب قال : شهدت النبي صلى الله عليه و سلم و هو يحث على جيش العسرة فقام عثمان فقال : يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها و أقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال : يا رسول الله علي مائتا بعير بأحلاسها و أقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال : يا رسول الله علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها و أقتابها في سبيل الله قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل على المنبر و هو يقول : ما على عثمان ما فعل بعد هذه ما على عثمان ما فعل بعد هذه ] و خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أن عثمان جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره قال : فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم يقلبها في حجره و يقول : ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم مرتين ] و كان أيضا منهم عبد الرحمن بن عوف و في مسند الإمام أحمد أنه قدم له عير إلى المدينة فارتجت لها المدينة فسألت عائشة عنها و حدثت حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم فبلغ عبد الرحمن فجعلها كلها في سبيل الله بأقتابها و أحلاسها و كانت سبعمائة راحلة و خرجه ابن سعد من وجه آخر فيه انقطاع و عنده أنها كانت خمسمائة راحلة و خرج الترمذي [ من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول تعني لأزواجه : إن أمركن لمما يهمني بعدي و لن يصبر عليكن إلا الصابرون قال : ثم تقول عائشة لأبي سلمة : سقى الله أباك من سلسبيل الجنة و كان قد وصل أزواج النبي صلى الله عليه و سلم بمال بيعت بأربعين ألفا ] و قال : حسن غريب و خرجه الحاكم و صححه و خرج الإمام أحمد أوله و خرج الإمام أحمد أيضا و الحاكم [ من حديث أم بكر بنت المسور بن مخرمة أن عبد الرحمن بن عوف باع أرضا له من عثمان بأربعين ألف دينار فقسمها في فقراء بني زهرة و في المهاجرين و أمهات المؤمنين قال المسور : فأتيت عائشة رضي الله عنها بنصيبها من ذلك فقالت لنا : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة ] و خرج الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأزواجه : إن الذي يحنو عليكن بعدي هو الصادق البار : اللهم ساق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة ] و خرجه ابن سعد و زاد : إن إبراهيم بن سعد قال : حدثني بعض أهلي من ولد عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف باع أمواله من كيدمة و سهمه من بني النضير بأربعين ألف دينار فقسمها على أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و خرج الترمذي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه أن أباه عبد الرحمن بن عوف أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف و خرجه الحاكم و لفظه : بيعت بأربعين ألف دينار و أخبار الأجواد المنفقين أموالهم في سبيل الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يطول ذكرها جدا و كان الفقراء من الصحابة كلما رأوا أصحاب الأموال منهم ينفقون أموالهم فيما يحبه الله من الحج و الإعتمار و الجهاد في سبيل الله و العتق و الصدقة و البر و الصلة و غير ذلك من أنواع البر و الطاعات و القربات حزنوا لما فاتهم من مشاركتهم في هذه الفضائل و قد ذكرهم الله في كتابه بذلك فقال تعالى : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون } : نزلت هذه الآية بسبب قوم من فقراء المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه و سلم و هو يتجهز إلى غزوة تبوك فطلبوا منه أن يحملهم فقال لهم : [ لا أجد ما أحملكم عليه ] فرجعوا و هم يبكون حزنا على ما فاتهم من الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قال بعض العلماء : هذا و الله بكاء الرجال بكوا على فقدهم رواحل يتحملون عليها إلى الموت في مواطن تراق فيها الدماء في سبيل الله و تنزع فيها رؤوس الرجال عن كواهلها بالسيوف فأما من بكى على فقد حظه من الدنيا و شهواته العاجلة فذلك شبيه ببكاء الأطفال و النساء على فقد حظوظهم العاجلة 

 

( سهر العيون لغير وجهك باطل ... و بكاؤهن لغير فقدك ضائع )
إنما يحسن البكاء و الأسف على فوات الدرجات العلى و النعيم المقيم قال بعضهم : يرى رجل في الجنة يبكي فيسأل عن حاله فيقول : كانت لي نفس واحدة قتلت في سبيل الله و وددت أنه كانت لي نفوس كثيرة تقتل كلها في سبيله غزا قوم في سبيل الله فلما صافوا عدوهم و اقتتلوا رأى كل واحد منهم زوجته من الحور قد فتحت بابا من السماء و هي تستدعي صاحبها إليها و تحثه على القتال فقتلوا كلهم إلا واحدا و كان كلما قتل منهم واحد غلق باب و غابت منه المرأة فأفلت آخرهم فأغلقت تلك المرأة الباب الباقي و قالت ما فاتك يا شقي ؟ فكان يبكي على حاله إلى أن مات و لكنه أورثه ذلك طول الإجتهاد و الحزن و الأسف
( على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... و إن كان من ليلى على الهجر طاويا )
لما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول الله عز و جل : { فاستبقوا الخيرات }
{ سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض } فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة و المسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملا يعجز عنه خشي أن يكون صاحب ذلك العمل هو السابق له فيحزن لفوات سبقه فكان تنافسهم في درجات الآخرة و استباقهم إليها كما قال تعالى : { و في ذلك فليتنافس المتنافسون } ثم جاء من بعدهم فعكس الأمر فصار تنافسهم في الدنيا الدنية و حظوظها الفانية قال الحسن : إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة و قال وهيب بن الورد : إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل و قال بعض السلف : لو أن رجلا سمع بأحد أطوع لله منه كان ينبغي له أن يحزنه ذلك و قال غيره : لو أن رجلا سمع برجل أطوع لله منه فانصدع قلبه فمات لم يكن ذلك بعجب قال رجل لمالك بن دينار رأيت في المنام مناديا ينادي أيها الناس الرحيل الرحيل فما رأيت أحدا يرتحل إلا محمد بن واسع فصاح مالك و غشي عليه : { والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم } قال عمر بن عبد العزيز في حجة حجها عند دفع الناس من عرفة ليس السابق اليوم من سبق به بعيره إنما السابق من غفر له كان رأس السابقين إلى الخيرات من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال عمر : ما استبقنا إلى شيء من الخير إلا سبقنا أبو بكر و كان سباقا بالخيرات ثم كان السابق بعده إلى الخيرات عمر و في آخر حجة حجها عمر جاء رجل لا يعرف كانوا يرونه من الجن فرثاه بأبيات منها :
( فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق )
صاحب الهمة العالية و النفس الشريفة التواقة لا يرضى بالأشياء الدنية الفانية و إنما همته المسابقة إلى الدرجات الباقية الزاكية التي لا تفنى و لا يرجع عن مطلوبه و لو تلفت نفسه في طلبه و من كان في الله تلفه كان على الله خلفه
قيل لبعض المجتهدين في الطاعات : لم تعذب هذا الجسد ؟ قال : كرامته أريد
( و إذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام )
قال عمر بن عبد العزيز إن لي نفسا تواقة ما نالت شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه و إنها لما نالت هذه المنزلة يعني الخلافة و ليس في الدنيا منزلة أعلى منها تاقت إلى ما هو أعلى من الدنيا يعني الآخرة
( على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... و تأتي على قدر الكرام المكارم )
قيمة كل إنسان ما يطلب فمن كان يطلب الدنيا فلا أدنى منه فإن الدنيا دنية و أدنى منها من يطلبها و هي خسيسة و أخس منها من يخطبها قال بعضهم : القلوب جوالة فقلب يجول حول العرش و قلب يجول حول الحش الدنيا كلها حش و كل ما فيها من مطعم و مشرب يؤل إلى الحش و ما فيها من أجسام و لباس يصير ترابا كما قيل : و كل الذي فوق التراب تراب و قال بعضهم في يوم عيد لإخوانه : هل تنظرون إلا خرقا تبلى أو لحما يأكله الدود غدا و أما من كان يطلب الآخرة فقدره خطير لأن الآخرة خطيرة شريفة و من يطلبها أشرف منها كما قيل :
( أثامن بالنفس النفيسة ربها ... و ليس لها في الخلق كلها ثمن )
( بها تدرك الأخرى فإن أنا بعتها ... بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن )
( لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها ... لقد ذهبت نفسي و قد ذهب الثمن )
و أما من كان يطلب الله فهو أكبر الناس عنده كما أن مطلوبه أكبر من كل شيء كما قيل :
( له همم لا منتهى لكبارها ... و همته الصغرى أجل من الدهر )
قال الشبلي : من ركن إلى الدنيا أحرقته بنارها فصار رمادا تذروه الرياح و من ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها فصار سبيكة ذهب ينتفع به و من ركن إلى الله أحرقه بنور التوحيد فصار جوهرا لا قيمة له العالي الهمة يجتهد في نيل مطلوبه و يبذل وسعه في الوصول إلى رضى محبوبه فأما خسيس الهمة فاجتهاده في متابعة هواه و يتكل على مجرد العفو فيفوته إن حصل له العفو منازل السابقين المقربين قال بعض السلف : هب أن المسيء عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين
( فيا مذنب يرجو من الله عفوه ... أترضى بسبق المتقين إلى الله )
لما تنافس المتنافسون في نيل الدرجات غبط بعضهم بعضا بالأعمال الصالحات قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا حسد إلا في اثنتين : رجل أتاه الله مالا فهو ينفقه في سبيل الله آناء الليل و آناء النهار و رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل و آناء النهار ] و في رواية : [ لا تحاسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل و النهار يقول : لو أتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل و رجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في حقه يقول : لو أتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل ] و هذا الحديث في الصحيحين و في الترمذي و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما مثل هذه الأمة كأربعة نفر : رجل آتاه الله مالا و علما فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه و رجل آتاه الله علما و لم يؤته مالا و هو يقول : لو كان لي مثل هذا لعملت فيه مثل الذي يعمل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فهما في الأجر سواء و رجل آتاه الله مالا و لم يؤته الله علما و لا مالا فهو يقول : لو كان لي مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فهما في الوزر سواء ] و روى حميد بن زنجويه بإسناده عن زيد بن أسلم قال : يؤتى يوم القيامة بفقير و غني اصطحبا في الله فيوجد للغني فضل عمل فيما كان يصنع في ماله فيرفع على صاحبه فيقول الفقير : يا رب لما رفعته و إنما اصطحبنا فيك و عملنا لك فيقول الله تعالى : له فضل عمل بما صنع في ماله فيقول : يا رب لقد علمت لو أعطيتني مالا لصنعت مثل ما صنع فيقول : صدق فارفعوه إلى منزلة صاحبه و يؤتى بمريض و صحيح اصطحبا في الله فيرفع الصحيح بفضل عمله فيقول المريض : يا رب لم رفعته علي فيقول : بما كان يعمل في صحته فيقول : يا رب لقد علمت لو أصححتني لعملت كما عمل فيقول الله : صدق فارفعوه إلى درجة صاحبه و يؤتى بحر و مملوك اصطحبا في الله فيقول مثل ذلك و يؤتى بحسن الخلق و سيء الخلق فيقول : يا رب لم رفعته علي و إنما اصطحبنا فيك و عملنا فيقول : بحسن خلقه فلا يجد له جوابا العاقل يغبط من أنفق ماله في سبيل الخيرات و نيل علو الدرجات و الجاهل يغبط من أنفق ماله في الشهوات و توصل به إلى اللذات المحرمات قال الله تعالى حاكيا عن قارون : { فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * و قال الذين أوتوا العلم و يلكم ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا } إلى قوله : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين }
فلما رأى النبي صلى الله عليه و سلم تأسف أصحابه الفقراء و حزنهم على ما فاتهم من إنفاق إخوانهم الأغنياء أموالهم في سبيل الله تقربا إليه و ابتغاء لمرضاته طيب قلوبهم و دلهم على عمل يسير يدركون به من سبقهم و لا يلحقهم معه أحد بعدهم و يكونون به خيرا ممن هم معه إلا من عمل مثل عملهم : و هو الذكر عقب الصلوات المفروضات و قد اختلفت الروايات بأنواعه و عدده و الأخذ بكل ما ورد من ذلك حسن و له فضل عظيم و في حديث أبي هريرة هذا : أنهم يسبحون و يحمدون و يكبرون خلف كل صلاة ثلاثا و ثلاثين و قد فسره أبو صالح راوية عنه بالجمع و هو أن يقول : سبحان الله و الحمد لله و الله أكبر ثلاثا و ثلاثين مرة فيكون جملة ذلك تسعا و تسعين
و قد يستشكل على هذا حديث : [ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم : عما يعدل الجهاد ؟ فقال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر و تقوم و لا تفتر ] و هو حديث ثابت صحيح أيضا فلم يجعل للجهاد عدلا سوى الصيام الدائم و القيام الدائم و في هذا الحديث قد جعل الذكر عقب الصلوات عدلا له ؟ و الجمع بين ذلك كله : أن النبي لم يجعل للجهاد في زمانه عملا يعدله بحيث إذا انقضى الجهاد انقضى ذلك العمل و استوى العامل مع المجاهد في الأجر و إنما جعل الذي يعدل الجهاد الذكر الكثير المستدام في بقية عمر المؤمن من غير قطع له حتى يأتي صاحبه أجله فإذا استمر على هذا الذكر في أوقاته إلى أن مات عليه عدل ذكره هذا الجهاد و قد دل على ذلك أيضا ما خرجه الإمام أحمد و الترمذي [ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ألا أنبئكم بخير أعمالكم و أزكاها عند مليككم و أرفعها في درجاتكم و خير لكم من إنفاق الذهب و الورق و خير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : ذكر الله عز و جل ] و خرجه مالك في الموطأ موقوفا و خرج الإمام أحمد و الترمذي أيضا من [ حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل : أي العبادة أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : { الذاكرين الله كثيرا } قلت يا رسول الله و من الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه الكفار و المشركين حتى ينكسر و يختصب دما لكان الذاكرون الله عز و جل أفضل منه درجة ] و قد روي هذا المعنى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه و طائفة من الصحابة موقوفا و أن الذكر لله أفضل من الصدقة بعدة دراهم و دنانير و من النفقة في سبيل الله و قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه : رجل أعتق مائة نسمة ؟ قال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير و أفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل و النهار و أن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز و جل و عنه قال : لأن أقول لا إله إلا الله و الله أكبر مائة مرة أحب إلي من أن أتصدق بمائة دينار و يروى مرفوعا و موقوفا من غير وجه من فاته الليل أن يكابده و بخل بالمال أن ينفقه و جبن عن عدوه أن يقاتله فليكثر من سبحان الله و بحمده فإنها أحب إلى الله من جبل ذهب أو فضة ينفقه في سبيل الله عز و جل و ذكر الله من أفضل أنواع الصدقة و خرج الطبراني [ عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا : ما صدقة أفضل من ذكر الله عز و جل ] و قد قال طائفة من السلف في قول الله عز و جل : { و أقرضوا الله قرضا حسنا } : إن القرض الحسن قول : سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و في مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أنفق عبد نفقة أفضل عند الله عز و جل من قول ليس من القرآن و هو من القرآن : سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر ] و روى عبد الرزاق في كتابه [ عن معمر عن قتادة قال : قال ناس من فقراء المؤمنين : يا رسول الله ذهب أصحاب الدثور بالأجور يتصدقون و لا نتصدق و ينفقون و لا ننفق قال أرأيتم لو أن مال الدنيا وضع بعضه على بعض أكان بالغا السماء ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : أفلا أخبركم بما أصله في الأرض و فرعه في السماء : أن تقولوا في دبر كل صلاة : لا إله إلا الله و الله أكبر و سبحان الله و الحمد لله عشر مرات فإن أصلهن في الأرض و فرعهن في السماء ] و قد كان بعض الصحابة يظن أن لا صدقة إلا بالمال فأخبره النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن الصدقة لا تختص بالمال و أن الذكر و سائر أعمال المعروف صدقة ] كما في صحيح مسلم [ عن أبي ذر رضي الله عنه : أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الثور بالأجور يصلون كما نصلي و يصومون كما نصوم و يتصدقون بفضول أموالهم ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أوليس قد جعل الله لكم صلاة العشاء في جماعة تعدل حجة و صلاة الغد في جماعة تعدل عمرة ] و قال أبو هريرة لرجل : بكورك إلى المسجد أحب إلي من غزوتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكره الإمام أحمد أداء الواجبات كلها أفضل من التنفل بالنفل بالحج و العمرة و غيرهما فإنه ما تقرب العباد إلى الله تعالى بأحب إليه من أداء ما افترض عليهم و كثير من الناس يهون عليه التنقل بالحج و الصدقة و لا يهون عليه أداء الواجبات من الديون و رد المظالم و كذلك يثقل على كثير من النفوس التنزه عن كسب الحرام و الشبهات و يسهل عليها إنفاق ذلك في الحج و الصدقة قال بعض السلف : ترك دانق مما يكرهه الله أحب إلي من خمسمائة حجة كف الجوارح عن المحرمات أفضل من التطوع بالحج و غيره و هو أشف على النفوس قال الفضيل بن عياض : ما حج و لا رباط و لا جهاد أشد من حبس اللسان و لو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في هم شديد ليس الإعتبار بأعمال البر بالجوارح و إنما الإعتبار بلين القلوب و تقواها و تطهيرها عن الآثام سفر الدنيا ينقطع بسير الأبدان و سفر الآخرة ينقطع بسير القلوب قال رجل لبعض العارفين : قد قطعت إليك مسافة قال : ليس هذا الأمر بقطع المسافات فارق نفسك بخطوة و قد وصلت إلى مقصودك سير القلوب أبلغ من سير الأبدان كم من واصل ببدنه إلى البيت و قلبه منقطع عن رب البيت و كم من قاعد على فراشه في بيته و قلبه متصل بالمحل الأعلى
( جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة و الروح في وطن )
قال بعض العارفين : عجبا لمن يقطع المفاوز و القفار ليصل إلى البيت فيشاهد فيه آثار الأنبياء كيف لا يقطع هواه ليصل إلى قلبه فيرى فيه أثر : [ و يسعني قلب عبدي المؤمن ] أيها المؤمن : إن لله بين جنبيك بيتا لو طهرته لأشرق ذلك البيت بنور ربه و انشرح و انفسح أنشد الشبلي :
( إن بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج )
( و مريضا أنت عائده ... قد أتاه الله بالفرج )
( وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج )
تطهيره تفريغه من كل ما يكرهه الله تعالى من أصنام النفس و الهوى و متى بقيت فيه من ذلك بقية فالله أغنى الأغنياء عن الشرك و هو لا يرضى بمزاحمة الأصنام قال سهل بن عبد الله : حرام على قلب أن يدخله النور و فيه شيء مما يكرهه الله
( أردناكم صرفا فلما مزجتم ... بعدتم بمقدار التفاتكم عنا )
( و قلنا لكم لا تسكنوا القلب غيرنا ... فأسكنتم الأغيار ما أنتم منا )
إخواني إن حبستم العام عن الحج فارجعوا إلى جهاد النفوس فهو الجهاد الأكبر أو أحصرتم عن أداء النسك فأريقوا على تخلفكم من الدموع ما تيسر فإن إراقة الدماء لازمة للمحصر و لا تحلقوا رؤوس أديانكم بالذنوب فإن الذنوب حالقة الدين ليست حالقة الشعر و قوموا لله باستشعار الرجاء و الخوف مقام القيام بأرجاء الخيف و المشعر و من كان قد بعد عن حرم الله فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله فإن رحمة الله قريب ممن تاب إليه و استغفر و من عجز عن حج البيت أو البيت منه بعد فليقصد رب البيت فإنه ممن دعاه و رجاه أقرب من حبل الوريد
( إليك قصدي رب البيت و الحجر ... فأنت سؤالي من حجي و من عمري )
( و فيك سعيي و تطوافي و مزدلفي ... و الهدي جسمي الذي يغني عن الجزي )
( و مسجد الخيف خوفي من تباعدكم ... و مشعري و مقامي دونكم خطري )
( زادي رجائي لكم و الشوق راحلتي ... و الماء من عبراتي و الهوى سفري 



من كتاب لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي