قال الإمام البيضاوي في المنهاج ما نصه:
الفصل الثالث فيما ظن صدقه
وهو خبر العدل الواحد. والنظر في طرفين: الأول في وجوب العمل به، دل عليه السمع، وقال ابن سريج والقفال والبصري: دل العقل أيضاً.
وأنكره قومٌ لعدم الدليل، أو للدليل على عدمه، شرعا أو عقلا.
وأحاله آخرون.
واتفقوا على الوجوب في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية
، انتهى كلام الإمام البيضاوي.


ومثل ذلك ما تجده في كافة كتب الأصول، من حصول الإجماع على وجوب العمل بخبر الواحد في المسائل الظنية، وأنه حجة فيها. كما أن الإجماع المتواتر في الأمة على العمل بخبر الآحاد واستنباط الأحكام الشرعية منه ثابت لا يمكن إنكاره. لكن بعض المعاصرين الزاعمين لأنفسهم الاجتهاد، عندما يجدون نصاً مانعا لهم من رأي يظنون صحته، ويريدون تصحيحه، يخترعون قواعد جديدة، أو يستخدمون بسبب الهوى قواعد في غير مكانها ومحلها.

قال أحدهم: (أن فقهاء الحنفية، وبعض فقهاء المالكية قالوا: إن التحريم لا يثبت إلا بدليل قطعي لا شبهة فيه، مثل القرآن الكريم والأحاديث المتواترة ومثلها المشهورة، فأما ما كان في ثبوته شبهة، فلا يفيد أكثر من الكراهة مثل أحاديث الآحاد الصحيحة).

أقول: أولاً: إن إفادة خبر الواحد للظن، لا تعني عدم العمل به، فإن الاتفاق قد حصل بين العلماء المجتهدين أن العمل بالظن في باب الفقه واجب بشكل قطعي. قال الإمام البيضاوي في ذلك: (المجتهد إذا ظن الحكم وجب عليه الفتوى والعمل به؛ للدليل القاطع على وجوب اتباع الظن، فالحكم مقطوع به والظن في طريقه)، انتهى.

فثبوت هذا القطع، على وجوب العمل بالظن، يشمل ظني الدلالة، وظني الثبوت، ولم يوجد من العلماء من رد خبر الواحد في الفقه لأنه خبر واحد، وإنما لتعارضه مع هو أقوى منه من الأدلة.

ثانياً: إن فقهاء الحنفية إنما فرقوا بين ما ثبت تحريمه بشكل قطعي فسموه حرامًا، وما ثبت تحريمه بدليل ظني فسموه مكروه تحريماً، ولا خلاف فيما بينهم أن من فعل المكروه تحريما فهو آثم، كما أن منكره ليس بكافر بل فاسق.

أما بعض فقهاء المالكية، فإنما ذكروا ذلك عن غيرهم (كما تراه في شرح التنقيح للإمام القرافي، وغيره)، ولا يوجد إمام من أئمة المالكية قد ذهب هذا المذهب المذكور، وإنما كان السلف المتقدمون يتحرزون من إطلاق كلمة الحرام على ما لم يقطع بتحريمه، ويعبرون عن الحرام بالكراهة وعدم المحبة، وهذا اصطلاح وعرف، وليس فيه ما يدل على عدم العمل بالآحاد من الأخبار.

وما يذكره علماء الأصول من نسبة ذلك إلى بعض المتكلمين (وهم من المعتزلة) فليس على عمومه، وإلا لبطلت أحكام الشرعية، ولما كان محرما وواجبا إلا مسائل معدودة في أبواب الفقه؟ ولأبحنا الكثير من المحرمات لأن أدلتها ظنية، فإن أغلب آيات الأحكام تدل ظنا على الأحكام ولا يوجد من قطعي الدلالة إلا القليل، ومثل ذلك بل أكثر منه في السنة الشريفة، فهل سيبقى لنا فقه إذا طردنا هذه القاعدة المخترعة أو قل المختزلة من كتب الأصول؟

وكل هذا الكلام خارج عن مسألة التعارض بين الأدلة، فإن التعارض بين الأخبار باب آخر، لا يقال فيه بترك العمل بأخبار الآحاد، إلا بفرض معارضتها لما هو قطعي أو مشهور، فيرجح القطعي ويؤول الظني، أو يقال بنسخه أو غير ذلك، مما هو مسطر في هذا الباب.

وقد كتب الشيخ عبد الله بن الصديق رسالة مفيدة في وجوب العمل بخبر الواحد، تجدها هنا.

والله الموفق للصواب.