الإجماع وحجيته
مع الدكتور سعد الدين الهلالي
استمعت أمسِ إلى الدكتور سعد الدين الهلالي في برنامج يبث على إحدى القنوات الفضائية.
وقد استغربت جدا من طريقة الطرح التي يتبعها ومن بعض الأفكار التي يعالجها، وقد كان موضوع الحلقة عن حجية الإجماع، وهو موضوع مهم جداً كما هو معلوم عند الدارسين للعلوم الشرعية، ودراسته مهمة سواء عند المثبتين له أو النافين على السواء، وما كان كذلك، فحري بالباحث أو المتكلم فيه أن يتبع أساليب سوية لمعالجته، وأن يعزف عن المغالطات والأغلاط الظاهرة أو التجاهلات.
ولا أريد أن أطيل، فلعله يتاح لي وقت أعالج فيه بعض آراء الدكتور المذكور، لا سيما وهو متخصص في الفقه والأصول، وأستاذ من أساتذة الأزهر المعاصر!
فأقول:
مما ذكره الدكتور في هذه الحلقة:
1-قال: بعض الناس يضحكون عليكم أو يخدعونكم (أو نحو ذلك) –يخاطب محاورَه- فيقولون لكم: إن الإجماع فكرة دينية، وهذا خطأ ، بل هي فكرة إنسانية، وهم لا يقولون ذلك إلا ليسيطورا على عقولهم ويتحكموا في قراراتكم. وهؤلاء الذين قالوا ذلك احتجوا بقوله تعالى (ومن يشاقق الرسول....الخ)...
هذا بعض ما قاله، لا بنصه وحروفه، أنا أكتب من ذاكرتي وما علق من معانيه فيها، فما ذكرته يعبر عن معنى كلامه، وقريب من من ألفاظه.
أقول: لا أدري، هل يجهل الدكتور الفاضل أن الذي يقول ذلك هو أغلب مجتهدي الأمة من المعتزلة وأهل السنة، وأن من أوائل من احتج بهذه الآية الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى، فهل هؤلاء يضحكون على عقول الناس، ويريدون السيطرة عليهم والتحكم فيهم؟!
وما معنى أن يطلق هذا الحكم على الآخرين وغاية ما يحق له أن يقوله إنهم مجتهدون أخطأوا في نظره، أما التشكيك في مقاصدهم، والاستخفاف بسوق كلامهم هكذا وكما سيأتي، فأنى يسوغ له ولغيره!
2-ما معنى أن الإجماع فكرة إنسانية، هل يريد أنها كلها صادرة من البشر لا دليل لهم مطلقا عليها من كلام الله تعالى وكلام رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، إن أراد ذلك، فهو غلط محض، ووصف غير صحيح، أم هي فكرة اشتق هؤلاء العلماء أصولها وأحكامها من كلام الله تعالى وكلام رسوله الكريم عليه السلام، على الأقل بحسب دعواهم. فهو اجتهاد لهم، على أقل تقدير. والدكتور ممن يعظم الاجتهادات ويدعو الناس إلى احترام كلام المجتهدين، فليكن هذا الاجتهاد في حجية الإجماع قولا للعلماء، فلمَ نراه يستخفُّ به، ويحقر من شأنه، ويتهم القائل به بما لا يصح له ، وبما لا دليل له عليه!؟
فمن الذي يستخف بعقول الناس إذن، ومن الذي يضحك عليهم!؟ أترك هذا للقارئ الفاضل.
3-ادعى الدكتور أنه لا يوجد إجماع أبدا على مسألة. وأطلقه إطلاقا عاما. وذكر بعض الأمثلة الفقهية، التي ربما تؤيد دعواه وربما لا تؤيده، وذلك بحسب تسليم ثبوت الإجماع فيها.
ولذلك نترك أمثلته، ونقول له: ألم يجمع المسلمون على أن شريعة سيدنا محمد خاتمة للشرائع كلها، وأن محمد عليه السلام خاتم للنبيين كلهم. وألم يجمع المسلمون على أن شريعة الإسلام يخاطب بها كل البشر من أسلم منهم ومن لم يسلم بشروطه الخطاب المعلومة في أصول الفقه! فكيف يقول إنه لا يوجد مسألة مجمع عليها.
وهل يرى الدكتور أنه يجوز لبعض الناس في هذا الزمان أن يخالفوا في مثل هذه المسائل، وغيرها من المقطوع به في الدين كوجوب الصلاة والصوم ، ليقولوا بما يزعمون أنه نتاج إجماعهم، وقد ظهر بعض من يقول إن الصوم ليس واجبا إلا لترويض الأخلاق والشعور بمعاناة الفقراء، فمن كانت أخلاقه حسنة، وشاعرا بالفقراء ومعاناتهم، فلا يجب عليه الصوم. وادعى أن ذلك اجتهاد منه، وقراءة جديدة اجتهادية للإسلام.
وادعى بعض المنحرفين أن اليهود والنصارى (المسيحيين) لا يجب عليهم اتباع شريعة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يجب عليهم العدول عما هم عليه من عقيدة وشريعة، والمطلوب منهم فقط هو الإيمان بنبوة محمد عليه السلام، وليبقوا على ما هم عليه.
فهل يقول الدكتور الفاضل أن هؤلاء مجتهدون، وأنه لا حجة عليهم، وأن لهم أن يقولوا بما يقولون به.
4-ادعى الدكتور أن الدولة في الإسلام لا علاقة لها بالدين مطلقا، فلا يصح أن يقال إن الدولة ترعى الدين، وهذه فكرة غريبة شاذة عن الإسلام. وأن رئيس الدولة لا علاقة له بأي من التشريعة الخاصة بالإسلام والأحكام المنزلة!!
ولا يخفى أن هذه الفكرة مستوردة من الليبرالية والحداثة ، وإن حاول أصحابها أنم يلبسوها لباسا إسلاميا، الآن ومن قبل، ولن يستطيعوا أن يقيموا على ذلك دليلا صحيحا، إن هو إلا الهوى والتعنت.
5-عندما أراد الدكتور الفاضل أن يفسر مفهوم الإجماع، قال إنه مرج اتفاق من العلماء، فما دام الناس متفقين، فهم ملزمون بمقتضى اتفاقهم، ولا يلزم ذلك الاتفاق إلا من التزم به من المتفقين أو من وافقوهم على ما قرروه في اتفاقهم. أما من رجع عن ذلك، أو خالفهم، فلا يلزمه أبدا ما يقولون به.
وهذا التصوير للإجماع تصوير فيه نوع من السذاجة أو التسطيح لست متأكداً الآن إن كان مقصودا أو لا! وأنا استغرب هل درس الدكتور الفاضل مفهوم الإجماع من كتب أصول الفقه أم درسه من كتب سياسية معاصرة؟؟ أو من كتب توضح طرق الإصلاح بين المختلفين وحل الإشكالات بين المتنازعين من دهماء الناس وخواصهم وعوامهم.
6-لما تكلم الدكتور عن إمام الحرمين الجويني وطريقة استدلاله على الإجماع، في كتاب البرهان، قال إنه عبقريّ، أي الجويني، وهذا أوافقه عليه، والسبب الذي من أجله وصفه الدكتور بنحو هذا الوصف، أن الجويني قرر أنه لا مطمع لنا في دليل عقلي على الإجماع، وقرر أن الدليل المعتبر عنده هو العادة، ولذلك يقول الجويني بالإجماع بناء على العادة. وهذا قول مشهور للجويني إمام الحرمين.
ولكن ...!
لما عقب الدكتور على ذلك قال: نعم هي العادة، والعادة تتغير!! فإذا تغيرت يتغير حكم الإجماع.
أقول: أحسن تعليق هنا أو أقول: لا تعليق، فيبدو أن الدكتور مغرق في الفقهيات والمعارف السياسية، ولم يسمع قطّ مفهوم الحكم العاديّ المقابل القسيم للحكم العقلي والشرعي عند كثير من الأعلام، وكأنه لم يعرف الحكم العادي بهذا المفهوم يستفاد منع قطع يسمى قطعا عاديا، وأن هذا القطع هو مستند دلالة المعجرات على صدق الأنبياء، عند كثير من الأعلام، وهو مستند بعض الاحكام العقدية في علم التوحيد.
فلا يصح ان يتعامل الدكتور مع العادة هنا كما يتعامل الفقهاء مع العادة في تعليق بعض الأحكام الشرعية عليها.
وهو نوع من الخلط الظاهر.
هذا: مع أن الدكتور قد خلط الإمام أبو محمد الجويني وإمام الحرمين، وقال مما قاله: إن كلا من الجويني ووالده أبي محمد جاورا الحرمين!
أنا شخصيا ضد التعصب لمذهب معين من المذاهب الفقهية، ولكني ضد التسيب وإطلاق الأمر على النحو الذي يطلقه الدكتور، في كثير من تسجيلاته، زاعما أن هذا هو الطريق لتحرير الأمة من الجمود، وأن هذا هو السبيل لفك القيود عن الناس عوامهم وعلمائهم.
ولا أريد هنا أن أتعقبه في كثير من المواضع التي ذكرها. ولكن أردت الإشارة إلى خطورة هذه الطريقة التي يتبعها الدكتور سعد الدين الهلالي هنا، وقد صارت تسري بين بعض المنتسبين لعلوم الشريعة.
ولا أشك أن الدكتور لا ينبغي أن يزعل أو يغضب أو يحمل علينا عندما نخالفه أو نستخف ببعض آرائه، فهو قد فعل ذلك مع من لا نختلف معه في جلالتهم، ولا سيما أن طريقته تستدعي احترام الأقوال كلها بحسب الظاهر، وبحسب دعواه، وإن كنت أشك في ذلك، لأنه سيقف قطعا عند بعض الآراء الاجتهادية ولأغلب العلماء بالتسخيف والإنكار والمنع من الاتباع ودعوة الناس إلى العزوف عنها، وذلك أنه فيما يبدو لي يسير باختياراته وأمثلته التي يكثر من ضربها في مقابلاته وحلقاته إلى مقصد معين لا يخفى ، وليس هو مجرد تحرير الأمة أو تنويرها، بل السير بها إلى مذهب معين يبدو مخترعا مستحدثاً.
والله الموفق.