قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله في مناقشة مسئلة الدور في الطلاق المشهورة :


وكذلك الإمام الكمال بن الرداد شارح الإرشاد وعالم زبيد وأعمالها فإنه ممن اعتمد بطلان الدور في شرحه الكوكب الوقاد وكذلك في فتاويه وتبعه ولده العلامة المحقق في جمعها فمنها أنه سئل:
هل يجوز العمل بالإلقاء
فقال: لا يجوز العمل به وعلى القول بصحته لا يصح التوكيل فيه،

ومنها أنه سئل عما عمت به البلوى في نواحي الحجاز أن الرجل إذا أراد طلاق زوجته فهمت منه عدم الرغبة قالت له: أقر أنه لا إلقاء لك فيقر ثم يشهد عليه ثم يطلقها طلاقا منجزا بائنا
ثم إذا بدا له رغبة فيها قال: أنا كاذب في إقراري وجاء لمن عقد الدور صحيح عنده من فقيه، أو حاكم فيحكم له ببقاء الزوجية وببطلان الإقرار وبطلان طلاقه وإن لم يبد له رغبة تزوجت وأجمع على ذلك أكثر متفقهة تلك النواحي زيديهم وشافعيهم وحسموا باب الطلاق
فهل تطلق زوجته والصورة هذه
وربما كان أكثرهم عوام لا يفهم الدور
وهل يجوز الحكم ببقاء الزوجية وببطلان الطلاق بعد هذه الكيفية
وماذا يجب على من أقدم على ذلك بعد من أفتاه من يعتقد فقهه بوقوع الطلاق وعدم صحة الإقرار. اهـ السؤال فتأمله حتى تتأمل جوابه من هذا الرجل العظيم الذي هو من أجل علماء اليمن وذلك الجواب قوله رحمه الله تعالى:
المعتمد في الفتوى وقوع الطلاق المنجز وهو المنقول عن ابن سريج وصححه جمع وعليه العمل في الديار المصرية والشامية وهو القوي في الدليل وعزاه الرافعي إلى أبي حنيفة قال:
وقد قال ابن الصلاح هذه المسألة أود لو محيت وابن سريج بريء مما نسب إليه فيها
والذي عليه الطوائف من المذهب وجماهير أصحابنا أنه لا ينسد باب الطلاق،

وقال بعض المتأخرين: القول بعدم الوقوع قول باطل فإن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح وما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق
قال: وسبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام فقالوا: إذا وقع المنجز وقع المعلق وهذا ليس بصحيح فإنه يستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة والكلام المشتمل على ذلك باطل وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز
وقوع المعلق؛ لأنه إنما يلزم ذلك إذا كان التعليق صحيحا. اهـ.
وبالغ السروجي من الحنفية فقال القول بانسداد باب الطلاق يشبه مذهب النصارى

وقال القرافي في القواعد:
كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: هذه المسألة لا يصح فيها التقليد والتقليد فيها فسوق؛ لأن القاعدة أن قضاء القاضي ينقض إذا خالف أحد أربعة أشياء:
الإجماع، أو النص، أو القاعدة، أو القياس الجلي
وما لا يقر شرعا إذا تأكد بقضاء القاضي بنقضه فأولى إذا لم يتأكد، وإذا لم نقره شرعا حرم التقليد فيه؛ لأن التقليد في غير شرع هلاك وهذه المسألة مخالفة للقواعد الشرعية فلا يصح التقليد فيها،

قال القرافي: وهذا بيان حسن ظاهر ثم حكى عن الإسنوي والزركشي ما قدمته عنهما

ثم قال الإمام البلقيني:
ورجح عدم الوقوع كثير لا في تطليقه بطلبها في الإيلاء والحكمين في الشقاق بل يقع كما يقع الفسخ في إن فسخت بعيبك فأنت طالق قبله ثلاثا ولا في حال نسيان التعليق فيقع قبله تخريجا. اهـ.
قال: والنقل عن ابن سريج وصححه جمع أنه يقع المنجز وهو المعتمد في الفتوى. اهـ.
إذا علمت ذلك فالقاضي المقلد لا ينبغي له أن يعمل بالقول بعدم الوقوع لما تقدم عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ولما أطبق عليه المحققون من المتأخرين من العمل بخلافه، وصورة المسألة أن تمضي مدة التعليق ثم ينجز الطلاق فإن أعقب تعليقه بالتنجيز وقع المنجز قطعا ونبه عليه السراج البلقيني وهو ظاهر

وأما الإجماع المذكور من متفقهة على التفصيل المذكور فلا يسوغ، وفسقهم بالعمل به ظاهر نسأل الله سبحانه وتعالى العصمة والهداية. اهـ جواب الفقيه الرداد


فتأمل حكمه على المتفقهة المذكورين بفسقهم بالعمل بصحة الدور تعلم فسق هذا الزهراني بالعمل به ويتضح لك صحة ما قدمته من شبهه والمبالغة في تفسيقه إذ هو فاسق كما حكم عليه هذا الرجل العظيم، والفاسق - سيما المتجاهر - لا حرمة له ولا توقير ولا مراعاة بل يعامل بالسب والزجر والتغليظ لعله ينزجر ويتوب عن الجراءة على الأحكام الشرعية بالكذب والبهتان ونصب نفسه لمقام الإفتاء الذي ليس هو ولا شيخه الذي ذكره فيه أهلية له بوجه من الوجوه

وليس هذا المقام ينال بالهوينا، أو يتسور سوره الرفيع من حفظه وتلقف فروعا لا يهتدي لفهمها ولا يدري مأخذها ولا يعلم ما قيل فيها وإنما يجوز تسور ذلك السور المنيع من خاض غمرات الفقه حتى اختلط بلحمه ودمه وصار فقيه النفس بحيث لو قضى برأيه في مسألة لم يطلع فيها على نقل لوجد ما قاله سبقه إليه أحد من العلماء فإذا تمكن الفقه فيه حتى وصل لهذه المرتبة ساغ له الآن أن يفتي
وأما قبل وصوله لهذه المرتبة فلا يسوغ له إفتاء وإنما وظيفته السكوت عما لا يعنيه وتسليم القوس إلى باريها إذ هي مائدة لا تقبل التطفل ولا يصل إلى حومة حماها الرحب الوسيع إلا من أنعم عليه مولاه بغايات التوفيق والتفضل.


وتأمل أيضا قوله إن المحققين من المتأخرين أطبقوا على العمل ببطلان الدور.
وتأمل أيضا قوله عن ابن عبد السلام وقدمته عنه أيضا: إن التقليد في هذه المسألة للقائلين بصحة الدور حرام وفسوق وهلاك فهل بقي بعد هذا تشديد وتغليظ

بل جمع ابن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء في هذه الكلمات الثلاث ما ينبغي للعاقل بعد أن سمع ذلك أن لا يقلد في هذه المسألة القائل بصحة الدور ولا يعمل بذلك ولا يعول عليه ولا يفتي به لا يعلمه لعامي، ومن خالف ذلك باء بعظيم هذا الإثم وازداد فسوقه وحق هلاكه نسأل الله السلامة والعافية آمين
اهـ الفتاوى الكبرى



قال ابن الصلاح رحمه الله في مراتب الإفتاء:

الحالة الرابعة : أن يقوم بحفظ المذهب ونقله ، وفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها، غير أن عنده ضعفًا في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم.

وأما ما لا يجده منقولا في مذهبه، فإن وجد في المنقول ما هذا في معناه بحيث يدرك من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما، كما في الأمة بالنسبة إلى العبد المنصوص عليه في إعتاق الشريك، جاز له إلحاقه به والفتوى به.
وكذلك ما يعم اندراجه تحت ضابط منقول ممهد في المذهب، وما لم يكن كذلك فعليه الإمساك عن الفتيا فيه.

ومثل هذا يقع نادرًا في حق مثل الفقيه المذكور، إذ يبعد كما ذكر الإمام أبو المعالي ابن الجويني : أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب، ولا هي في معنى شيء من المنصوص عليه فيه من غير فرق، ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابط المذهب المحررة فيه.

ثم إن هذا الفقيه لا يكون إلا فقيه النفس، لأن تصوير المسائل على وجهها، ثم نقل أحكامها بعد استتمام تصويرها جلياتها وخفياتها لا يقوم إلا فقيه النفس، ذو حظ من الفقه
اهـ آداب المفتي والمستفتي