العقد بيننا وبين الفقيه
قواعد فى التعليل




إعداد
دكتور كامل محمد عامر
بتصرف
من وحى كتاب
الإحكام في أصول الأحكام
للإمامالمحدثالحافظأبيمحمدعليبنأحمدبنسعيدالأندلسيالقرطبي
1436هـ ــــ 2015م
(الطبعة الأولي)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى خلق فسوى و قدر فهدى ، و أشهد أن لا اله إلا الله و حده لا شريك له يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وهو على كل شيئ قدير فقال تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الانبياء:23]و أشهد أن محمد عبده ورسوله أدى الامانة و بلغ الرسلة و تركنا على المحجة البيضاء قال عليه الصلاة والسلام "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ"[ابن ماجة فى المقدمة قال الألباني : (صحيح) انظر حديث رقم: 4369 في صحيح الجامع.]‌
أما بعد:
فإن العلل كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن جميع أحكامه ، لأنه لا تكون العلة إلا في مضطر.
والأسباب أيضاً كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن أحكامه ماعدا ما نص تعالى عليه أو رسوله.
إنَّ العِلَّة في أحكام الإسلام لو كانت تستلزم تحليل أو تحريم، لكانت غير مختلفة أبداً، كما أن العلل العقلية لا تختلف أبداً فالإسكار لو كان علة للتحريم لكانت الخمر حراماً مذ خلقها الله تعالى، فالخمر خلقها الله تعالى مسكرة، وقد كانت حلال في الإسلام سنين، فبطل بهذا أن يكون الإسكار علة التحريم، كما أن الله سبحانه وتعالى جعل النار علة الإحراق ، فلا تزال كذلك أبداً.

أدلة القائلين بالعلل
احتج القائلون بالعلل بآيات ظاهرها كون بعض الأحكام من أجل بعض الأحوال:
منها: قوله تعالى:{مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَدُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ} [الحشر:7].
والجواب: أننا قد وجدنا أموالاً كثيرة لم تقسم هذه القسمة فلو كانت العِلَّة هي ألا يكون دُولَةًبين الأغنياء لكان ذلك أيضاً علة في قسمة سائر الأموال من الغنائم وغيرها.
ومنها: قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ }.
والجواب: أن لو كان البغي عِلَّة في إيجاب الجزاء بذلك لكان ذلك واجباً أن يُجزى به البغاة منا ومن غيرنا لأن العلة مطردة في معلولاتها أبداً، ولكن هذا لم يحدث فصح أن البغي من أولئك كان سبباً لجزائهم ، وليس سبباً في غيرهم.
ومنها: قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }[المائدة:91]قالوا: فكانت هذه علل في وجوب تحريمها، أو الانتهاء عنها.
والجواب: أن كسب المال والجاه في الدنيا أَصَدُ عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وأوقع للعداوة والبغضاء فيما بيننا من الخمر والميسر وليس ذلك محرماً وقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه رضي الله عنهم إذ يقول : "فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" [البخارى كتاب الجزية]
وأيضاً: فالميسر قبل أن يحرم ما أوقع عداوة بذاته بل كان نافعاً للناس ، وكذلك قليل الخمر ليس فيه مما ذكر في الآية وقد كانت الخمر حلالاً مدة ستة عشرة عاماً في الإسلام، فلو كان ما وصفها الله تعالى به من الصد عن الصلاة، وعن ذكر الله تعالى علة للتحريم، لما وجدت قط إلا محرمة.
ومنها: قوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} [النساء:160]
والجواب: أننا نظلم كثيراً ولم يُحرم علينا طيبات أُحلت لنا، فصح أن الظلم ليس علة في تحريم الطيبات، ولا سبباً له إلا حيث جعله الله تعالى بالنص سبباً له فقط، لا فيما عدا ذلك المكان.
ومنها: قوله تعالى لموسى عليه السلام: {إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِطُوًى }[طه:12].
والجواب:أن الكون بالواد المقدس طوىلو كان علة لخلع النعال أو سبباً له، لوجب علينا خلع نعالنا بالوادي المقدس وبالحرم وبطوى، فلما لم يلزم ذلك بلا خلاف صح القول: إن الشيء إذا جعله الله سبباً لحكم ما، في مكان ما، فلا يكون سبباً إلا فيه وحده لا في غيره


الأدلة على إبطال القول بالعلل
الأدلة العقلية
يقال: هل هذه العلل
· من فعل الله تعالى ؟
· أم من فعــل غيره ؟
· أم لا من فعله تعالى ولا من فعل غيره؟.
فإن قيـل: من فعل غير الله فهذا كفر صريح.
وإن قيل: ليست من فعله ولا من فعل غيره، أوجبتم أن في العالم أشياء لا فاعل لها وهذا كفر مجرد.
وإن قيل: بل هي من فعل الله عزَّ وجلَّ.
· فهل فعلها الله تعالى لعلة؟
· أو فعلها لغير علة؟
فإن قيل: فعلها تعالى لغير علة، كان هذا إقرار أنه تعالى يفعل الأشياء لغيرعلة.
وإن قيل: بل فعلها تعالى لعلل أخر، سُئل في هذه العلل أيضاً كما سُئل في التي قبلها، وهكذا أبداً.
فلا بد من أحد وجهين لا ثالث لهما:
· إما أن يقال أنه سبحانه و تعالى فعلها لغير علة.
· أو يقال بمفعولات لا نهاية لها، وأشياء موجودة لا أوائل لها، وهذا كفر وخروج عن الشريعة بإجماع الأمة. وقبح الله قولاً يضطر قائله إلى مثل هذه المواقف.
ويقال أيضاً:
ما القول في إنسان قال: أعتقوا عبدي ميموناً لأنه أسود، وله عبيد سود كثير، أتعتقونهم لعلة السواد ، أم لا تعتقون منهم أحداً حاشا ميمون وحده.
فإن قلتم: نعتقهم، خالفتم الإجماع.
وإن قلتم: لا نعتقهم, تركتم القول بإجراء العلل.
فلو جاز أن يقال بالعلل لكان الإقدام به على كلام الناس، وأحكامهم أولى من الإقدام به على الله عزَّ وجلَّ ورسوله فلما اتفقوا على أن من قال: اعتقوا عبدي سالماً لأنه أسود، وله عبيد سود أنه لا يعتق غير سالم وحده الذي نص عليه، وخوفاً من تبديل أمر الموصي وكلامه، فإن الأولى بهم ألا ينسبوا إلى الله تعالى ولا إلى رسوله تعليلاً لم ينصَّا عليه.
وأيضاً
لقد نهي اللهُ تعالى الناسَ عن سؤالهم النبيَّ عليه السلام وأمرهم بالاقتصار على ما يفهمون مما يأمرهم به فقط،فلو كان المراد من النص غير ما سُمِعَ منه لكان السؤال لهم لازماً، ليتبينوا ويتعلموا،فلما منعوا من السؤال أيقنا أنهم إنما لزمهم ما أُعْلِمُوا به فقط.
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:"نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ قَالَ صَدَقَ قَالَ فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا قَالَ صَدَقَ قَالَ فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا قَالَ صَدَقَ قَالَ فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا قَالَ صَدَقَ قَالَ فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ صَدَقَ قَالَ ثُمَّ وَلَّى قَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ " [مسلم:كِتَاب الْإِيمَانِ بَاب السُّؤَالِ عَنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ]
وعَنْ نَوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ قَالَ:"أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةً مَا يَمْنَعُنِي مِنْ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ"[مسلم :كتاب البر والصلة والآداب باب تفسير البر والإثم]‏‏.


الأدلة النقلية
النهي عن القول بالعلل في القرآن
قال الله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًاكَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}[المدثر: 31]فأخبر تعالى أن البحث عن علَّة ما يريده تعالى ضلالاً.
وقال تعالى: { وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)}[الأعراف:20,19]
قال الله تعالى حاكياً عن إِبليس إذ عصى وأبى عن السجود أنه قال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12)} [الأعراف: 12] فصح أن خطأ آدم عليه السلام إنما كان من وجهين:
أحدهما: لم يعتبر أمر الله جلَّ وعلا فرضاً وواجباً. والثاني: قبوله قول إبليس أن نهي الله عن الشجرة إنما هو لعلة كذا.
فصح يقيناً بهذا النص البيِّن أن تعليل أوامر الله تعالى معصية، وأن القياس هو أول ما عُصِىَ اللهُ تعالى به في عالمنا هذا وهو قياس إبليس على أن السجود لآدم ساقط عنه، لأنه خير منه، إذ إبليس من نار وآدم من طين، ثم بالتعليل للأوامر ، وصح أن أول من قاس في الدين وعلل في الشرائع فإبليس. فصح أن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس، وأنه مخالف لدين الله تعالى.
وقال الله عز وجل حاكياً عن قوم من أهل الاستخفاف أنهم قالوا إذا أُمِروا بالصدقة: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[يس: 47] إنكار منه تعالى للتعليل، لأنهم قالوا: «لو أراد الله تعالى إطعام هؤلاء لأطعمهم دون أن يكلفنا نحن إطعامهم». وهذا نص لا خفاء به، على أنه لا يجوز تعليل شيء من أوامره، وإنما يلزم فيها الانقياد فقط وقبولها على ظاهرها.
إن جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم، وجميع التابعين، أولهم عن آخرهم، وجميع تابعي التابعين، أولهم عن آخرهم، ليس منهم أحد قال: إن الله تعالى حكم في شيء من الشريعة لعلَّة، وإنما ابتدع هذا القول متأخرو القائلين بالقياس.
وأيضاً فدعواهم إن هذا الحكم حكم به الله تعالى لعلة كذا؛ دعوى لا دليل عليها، ولو كان هذا الكذب عن أحد من الناس لسقطت عدالة قائله فكيف على الله عزَّ وجلَّ.
لا ينكر أحد وجود أسباب لبعض أحكام الشريعة، بل الجميع يثبت هذا يقول به.
لكن القول الحق: إنها لا تكون أسباباً إلا حيث جعلها الله تعالى أسباباً، ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التي نص فيها على أنها أسباب لما جعلت أسباباً له.

الفرق بين العلة والسبب والعلامة و الغرض
العلة
طبيعة في الشيء تقتضي صفة تلازمها أبداً والعلة لا تفارق المعلول أبداً،ككون النار علة الإحراق، والثلج علة التبريد؛فلا يوجد إحراق بدون ناراً أبداً ولا تبريد بدون ثلج أبداً. ولا يوجد أحدهما دون الثاني أصلاً، وليس أحدهما قبل الثاني أصلاً ولا بعده.
السبب
أمر وقع فاختار الإنسانُ أن يوقع فعلاً آخر من أجلهولو شاء ألا يوقعه لم يوقعه.
فغروب الشمس مثلاً سبب لوقت صلاة المغرب فالمكلف يصلى عندها وقد لا يصلى, وكغضب أدى بصاحبه إلى محاولة الإنتصار، فالغضب سبب الانتصار، ولو شاء ذلك الإنسان ألا ينتصر لم ينتصر.
وليس السبب موجباً للشيء المسبب منه ضرورةوهو قبل الفعل المتسبب منه ولا بد.
الغرض
هو الأمر الذي يجري إليه الفاعل ويقصده ويفعله. وهو بعد الفعل ضرورة.
فالغرض من الانتصار إطفاء الغضب وإزالته وإزالة الشيء هي شيء غير وجوده، وإزالة الغضب غير الغضب.
والغضب هو السبب في الانتصار، وإزالة الغضب هو الغرض في الانتصار.
العلامة
هي صفة يتفق عليها الإنسانان، فإذا رآها أحدهما عَلِمَ الأمرَ الذي اتفقا عليه؛ ومن هذا أخذت فكرة الأعلام الموضوعة في الصحراء لهداية الطريق، والأعلام في الجيوش لمعرفة موضع الرئيس.
فصل
لا يُنْكَر أن يكون الله تعالى جعل بعض الأشياء سبباً لبعض ما شرع من الشرائع.
كما جعل تعالى السرقة بصفة ما سبباً للقطع، والقذف بصفة ما سبباً للجلد والوطء بصفة مَّا سبباً للجلد والرجم.
وقد قال الله تعالى واصفاً لنفسه: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الانبياء:23] فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه جلَّ و علا أن أفعاله لا يجزىء فيها « لِمَ »...؟ وإذا لم يحل لنا أن نسأله سبحانه وتعالى عن شيء من أحكامه وأفعاله «لم كان هذا ؟»فقد بطلت الأسباب جملة وسقطت العلل البتة إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمراً كذا لأجل كذا.
وفي قوله تعالى:{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُوَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الانبياء:23]بيان جليأنه لا يجوز لأحد منا أن يقول قولاً لا يسأل عنه، ولزمنا فرضاًسؤال كل قائل من أين قلت كذا؟فإن كان مستنده آية أو حديث صحيح لزمنا طاعته ، وإن لم يأت بنص صحيح ضرب برأيه عرض الحائط.