أنتم ليس عندكم إلاّ ابن تيمية !!


قرأت في كتاب ينبوع الغواية الفكرية تأليف الشيخ عبد الله بن صالح العجيري نقضا بديعا لإحدى الإعتراضات القديمة المتجددة على السلفيين بدعوى حصرهم العلم و التحقيق في ابن تيمية رحمه الله فأحببت نسخه ومشاركتكم إيّاه فلتتفضّلوه مشكورين :



وهنا إشكالية أجنبية عن مسألتنا أجدني مضطرا إلى معالجتها قبل الولوج لمناقشة شبهة تعارض العقل والنقل وهو إستطراد اضطراري لمعالجة إشكالية يكثر تداولها عند إستجلاب أي كاتب سلفي لابن تيمية رحمه الله في مثل هذه السياقات وتتلخص هذه الإشكالية في الإعتراض الشهير : (أنتم ليس عندكم إلاّ ابن تيمية) والحقّ أن قائل هذا الكلام واقع في إشكاليات ثلاث :


1 – عدم تصور طبائع العلوم
2 – عدم تصور طبيعة فقه ابن تيمية
3 – عدم تصور واقع الخطاب السلفي


ومعالجة هذه الإشكاليات من خلال النقاط التالية :

1 – مما ينبغي أن يعلم عن طبائع العلوم أن لكل علم وفن عمالقته وعباقرته ومبدعيه فالمشتغلون في مختلف العلوم ليسوا على درجة واحدة بل فيهم رؤوس وفيهم من هو دون ذلك وهذه ظاهرة بشرية متفهمة تماما فإذا أراد أهل السنة والجماعة المعاصرون الكلام في (التفسير) مثلا نقلوا عن أئمته الكبار كالطبري والقرطبي وابن كثير وابن عاشور ونحوهم وإذا تكلّموا في (شرح الحديث) نقلوا عن ابن حجر والنووي وابن رجب والشوكاني ونحوهم وإذا تكلّموا في (المصطلح ومنهج النقد الحديثي) نقلوا عن أئمة النقد كشعبة ويحيى بن سعيد القطان وابن مهدي وابن المديني ومسلم والبخاري ... إلخ ثم الخطيب البغدادي وابن الصلاح والذهبي والعراقي وابن حجر والسخاوي والسيوطي ... إلخ وإذا تكلّموا في (أصول الفقه) نقلوا عن الجويني والغزالي والآمدي والرازي وأضرابهم وإذا تكلّموا في (علم مقاصد الشريعة) نقلوا عن العز ابن عبد السلام والغزالي والشاطبي وابن عاشور والفاسي وإذا تكلّموا في (علم القواعد الفقهية) نقلوا عن القرافي والشاطبي وابن رجب وأصحاب الأشباه والنظائر عموما وإذا تكلّموا في معاني (لغة العرب) نقلوا عن الخليل والجوهري وابن فارس والفيروزآبادي وابن منظور .... إلخ .

وهكذا فلكل علم سواء كان في الشرعيات أو حتى في العلوم الدنيوية رواده وكبراؤه والذين يمثلون مرجعياته العلمية المحترمة في تقرير مسائل تلك العلوم فإذا جاء الحديث عن (العقيدة والفقه) فإن عملاق المتأخرين الذي حرّر طريقة الصحابة فيها هو أبو العباس ابن تيمية عليه رحمة الله وإذا تأمّلت بموضوعية وإنصاف ما كتبه مشاهير المتأخرين في العقيدة والفقه عرفت امتياز ابن تيمية حقيقة وأنه لا مقارنة أصلا بين مدى تحقيقه وتحريره وطريقته في تتبع النصوص وتنظيم توازنات معانيها واستحضار هدي الصحابة وتحقيق غيره وحين نقول إن ابن تيمية هو أعمق المتأخرين في تحقيق طريقة الصحابة في (العقيدة والفقه) فهذا ليس قرارا بل هو نتيجة وأكثر الناس لا يفرق بين القرار والنتيجة فيقول : ولماذا تقررون أنّ ابن تيمية هو أكثرهم تحقيقا . والحقيقة أن أحدا لم يقرر هذا أصلا بل هي نتيجة لواقع فرض نفسه .

هذه الإشكالية تشابه تماما قول بعضهم : لماذا جعلتم البخاري ومسلم أصحّ كتب الحديث ؟ فهذا يظن أن قرارا كهذا اتخذ هكذا اعتباطا ولا يعلم أنه إنما جاء نتيجة موازنة علمية دقيقة بين كتب السنة تواطأ عليه أهل السنة بسبب مبررات موضوعية موجودة في الصحيحين فهو في الحقيقة ليس حكما مسبقا بل هو ثمرة لاحقة .

فالقول أن ابن تيمية أمهر المتأخرين في تحقيق طريقة الصحابة ليس قرارا إعتباطيا اتخذ كما يتصور بعض الناس هكذا عفو الخاطر أو لمحض العصبية والتشهي بل هو مبني على إستقراء ومقارنة بين كتابات ابن تيمية في العقيدة والفقه ببقية كتابات المتأخرين ومن أحب نقض هذا فالطريق يسيرة جدا بذكر عالم آخر يفوق ابن تيمية أو يقاربه في تحقيق طريقة الصحابة في العقيدة والفقه .

وهكذا فكما شاء الله لصحيح البخاري أن يكون أصحّ كتب الحديث وكما شاء الله أن يكون الطبري أعظم مفسري الإسلام وكما شاء الله أن يكون سيبويه أعظم أئمة النحو وكما شاء الله أن يكون الذهبي أعظم كتّاب التراجم فكذلك شاء الله أن يكون ابن تيمية ألمع المتأخرين في تحقيق طريقة الصحابة في العقيدة و الفقه وذلك فضل الله يوتيه من يشاء .

2 – يؤكد مما تقدم أن العالم إنما ينبل عند أهل السنة والجماعة بمقدار تحقيقه لطريقة الصحابة ومن تبعهم بإحسان لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين شرح افتراق الناس في فهم الإسلام بيّن الطريقة الصحيحة فقال : (هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وقال : (أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) وقال : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) وغيرها من النصوص الدالة على أن طريقة الصحابة في فهم الإسلام هي أصح الطرق وقد تقدم الإشارة إلى بعضها .

ومن تأمل كتب المتأخرين في العقيدة والفقه اكتشف – بمرارة – أن كثيرا من مسائل علم الكلام وكتب الفروع ابتعدت كثيرا من التعقيدات المتكلّفة والإفتراضات والتفسيرات المتنافية مع روح الشريعة ذاتها بل حرّموا على الناس كثيرا مما استجازه الصحابة رضوان الله عليهم هذا مما لا شك فيه .
والباحث المحقق الذي يعتني بالتحرير والتحقيق يضع دوما (أنموذج الصحابة) وهو يقرأ في كتب التراث فما وافق طريقتهم وروحهم وآثارهم علم أنه الحق ولا تزيده أدلة المتأخرين إلاّ تأكيدا وإذا رأى ما في كتب المتأخرين يتنافى مع فقه الصحابة علم أنه من المحدثات .

والسبب في ذلك أن فقه الصحابة نتاج تعليم وتربية النبي صلى الله عليه وسلم فإنّ الله أمره أن يعلّم الناس الكتاب والحكمة ويزكيهم وهو صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة على أكمل وجه ولذلك فمن طعن في فقه الصحابة وزعم أن الإنحراف بدأ من عندهم فقد طعن في أداء النبي صلى الله عليه وسلم للأمانة أعني أمانة تعليم الكتاب والحكمة والتزكية .

ولذلك فقد استفاد الإمام ابن تيمية كثيرا كثيرا من وضعه نموذج الصحابة نصب عينيه أثناء تحليله لفروع المتأخرين واجتهاداتهم وبنى على ذلك رفض كثير من تعقيدات المتأخرين .

ومن ذلك مثلا :

رفض نظرية تأويل الصفات المعقدة واحتج بأن الصحابة أعلم بالله ولم يتكلّموا عنها .
ورفض تقسيماتهم وتنويعاتهم المعقدة في علم الفروع ففي باب المياه مثلا رفض تنويعاتهم في المياه إلى الماء المتغير بما لا يمازجه من كافور وعود قماري والماء الذي انغمست فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء والتفريق بين الماء المتغير بالملح البحري والملح الأرضي وماء المقبرة وما اشتد حره وبرده والمسخن بنجاسة والمستعمل في طهارة سابقة وما يرفع حدث الأنثى لا الرجل البالغ والخنثى ... إلى آخر تلك التنويعات التي ليس عليها دليل صحيح وأعاد باب المياه إلى وضوحه وجلائه في فقه الصحابة .

ومن أمثلة ذلك أيضا رفضه لكثير من فروع باب التيمم المعقدة التي فرّعوها على أساس أن التيمم (مبيح لا رافع) فهذا الأصل الضعيف نشأ عنه من الفروع المرجوحة ما الله به عليم كبطلان التيمم قبل دخول الوقت ومن تيمم لنافلة لا يصلي بهذا التيمم فريضة والشروط الدقيقة التي اشترطوها في طبيعة التراب الذي يصح التيمم به وهكذا .

ومن أمثلة ذلك أيضا رفضه للشروط الدقيقة التي اشترطوها للخف الذي يجوز المسح عليه كحديثهم عم المخرق وما يثبت بنفسه وإمكان المشي به وغير ذلك

ومن أمثلة ذلك أيضا أنه رفض أيضا تقسيماتهم المعقدة في باب الحيض لأقل عمر الحائض وأكثره وإلى أقل مدة الحيض وأكثره إلى غير ذلك .

هذه فقط أمثلة عشوائية مختارة قفزت إلى الذهن من كتاب الطهارة فقط فضلا عن بقية كتاب العبادات أما إذا شئت أن أحدثك عما صنع في ربع المعاملات فذاك والله سفر ضخم لوحده ولتعلم فضل هذا الإمام تأمل في هذه المجامع الفقهية واللجان الشرعية الإقتصادية لولا الله ثم تفريجات ابن تيمية لها لكانت في آصار كتب المتأخرين وأغلالهم ولأغلقت أبوابها غير قادرة على أن تجيز معاملة واحدة معاصرة بسبب أن المتأخرين أخذوا نصوص الغرر بلفضها وتركوا تصرفات الشارع التطبيقية في الغرر ففات عليهم معرفة حكم الشارع في الغرر التبعي والغرر اليسير والغرر في غير المعاوضات فاضطربت عليهم قاعدة الجهالة فمنعوا كثيرا من العقود على هذا الأساس كما أن كثيرا منهم وقع في نفسه أن الأصل في الشروط التحريم وأن معنى الحديث كلّ شرط يخالف كتاب الله . فاضطربت عليهم قاعدة الشروط فمنعوا كثيرا من الشروط التي أجازها الشارع ثم لما أصبحت أمور الناس لا تسير بمثل ذلك صاروا يدخلون الإستثناءات بأصول ضعيفة جدا كإدخال الحنفية كثيرا من الإستثناءات بواسطة الإستحسان وصار الباب غير مطرد ولا قياس عليه كما راعى المتأخرون لفظ الصيغة دون معناها وبذلك أصبح علم المعاملات عند المتأخرين مخالفا لطريقة الصحابة .

فانظر كيف ترك هؤلاء المشايخ في تلك المجامع مذاهبهم الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وتمسكوا بأذيال مجموع الفتاوى والقواعد النورانية وبطلان التحليل .

وقد كان ابن تيمية كثيرا ما يحتج رحمه الله بهدي الصحابة المباشر البعيد عن هذه التكلفات ككثرة استحضاره لقاعدة قيام الداعي إليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولم يأت البيان بهذه التفصيلات والإشتراطات الدقيقة ويحيل كثيرا من الأمور التي حاول المتأخرون تقنينها إلى العرف كالسفر والقبض والحرز وألفاظ العقود والفسوخ .... إلخ أو إلى رأي أهل الخبرة كالغرر مثلا في بيع المغيبات وهو تطبيق عظيم وكلامه عنه له لذة لا تتصور .

ولذلك فقد مثل رحمه الله وبلا أدنى ذرة من ريب أعظم ثورة فقهية وعقدية أعادت الناس إلى هدي الصحابة رضوان الله عليهم البعيد عن التكلفات .

3 – فإذا أضفت إلى ما سبق ما يتصل بالجوانب المعرفية العقلية عند ابن تيمية كالإحاطة الضخمة بالمعارف العقلية والنقلية وحسن الفهم والذكاء وتوافر أدوات الإجتهاد والدراية التامة بمذاهب المخالفين والقدرة الهائلة على قلب الحجج على الخصوم ودقة المفاصلة في أبواب المصالح والمفاسد والإدراك المذهل لترتيب الأولويات وتفاضل الأعمال والعبادات .... إلخ مع ما تميز به في القضايا الأسلوبية في المجال الكتابي كالمباشرة والوضوح والقوة وغير ذلك ، استبان لك أنه من الطبيعي جدا أن يحظى ابن تيمية بهذا الموقع المتميز من خريطة الخطاب الشرعي المعاصر .

4 – أنه بلغنا قطعة طيبة من تراثه عليه رحمة الله في مختلف المعارف الشرعية خصوصا مجالي الإعتقاد والفقه فإذا قرنت تميزه العلمي ومنهجيته العلمية ووفرته الكتابية اتضح لك أن استحضاره في كثير من التحريرات العقدية / الفقهية أمر طبيعي ولا إشكال فيه .

5 – أنه رحمه الله قد علّم وربّى تلاميذ متميزين جدا في مختلف المجالات الشرعية خصوصا ابن القيم وابن مفلح وابن عبد الهادي وابن كثير وتلامذتهم كابن رجب فحين تتناول تراث ابن تيمية وآثاره في الفكر السلفي فأنت أمام مدرسة علمية متميزة لا أمام شخصية علمية مفردة وما من شك أن أولئك التلاميذ النابهين خصوصا ابن القيم قد تسببوا في زيادة حالة الإقبال على تراث الشيخ وكتبه .

6 – تأثّر الإمام محمد ابن عبد الوهاب بكتابات الشيخ طبّع حضور ابن تيمية في الحركة العلمية الشرعية من بعده وهذا التأثر والتطبيع عائد إلى ما سبق ذكره من أسباب موضوعية لوقوع هذا التأثير والتطبيع ولا يصح أن تؤخذ المسألة معزولة عن سياق ما تقدم من مبررات وإنما القصد التنبيه إلى كافة ما ولّد حالة استجلاب ابن تيمية في البحث العقدي والفقهي المعاصر وما من شك أن لدعوة الشيخ محمد وتلامذته من بعده سببا في تحقيق هذا الحضور ومن يطالع كتابات الشيخ محمد يجده كثيرا ينزع إلى المباشرة والوضوح والحساسية ضد التكلّف وهذه موجودة عند ابن تيمية – مع الفارق طبعا – فهذه الخصائص الكتابية كانت سببا أيضا في تأثير تراث ابن تيمية فيمن بعده وتأثر الشيخ محمد ابن عبد الوهاب ومدرسته بتراث الشيخ كانت سببا إضافيا

7 – أمّا ما يزعمه بعض الناس من أن أئمة أهل السنة والجماعة المعاصرين لا يخالفون ابن تيمية فهذا إطلاق غير دقيق فأكبر مرجعيتين فقهيتين محليتين أفرزهما الحراك العلمي الحديث الشيخان ابن باز وابن عثيمين وقد وقعت منهما أقوال على خلاف اختيارات ابن تيمية ففي رسالة (منهج ابن باز في الفقه والفتوى) للدكتور خالد آل حامد والتي نال بها درجة الدكتوراه كشف فيها أن ابن باز خالف ابن تيمية في 73 مسألة وجمع بعض طلاب العلامة ابن عثيمين مخالفات ابن عثيمين لابن تيمية فجاءت في مجلد لطيف فانظر كيف خالفوه في بحر علمه الذي أبدع وبرع فيه فكيف في غير ذلك من علوم الإسلام