قال ابن عبد الوهاب في الدرر(9/424):
((وتمام الكلام في هذا، أن يقال: الكلام هنا في مسألتين:
الأولى: أن يقال: هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين، ومع كثير من الأحياء والأموات والجن، من التوجه إليهم، ودعائهم لكشف الضر، والنذر لهم لأجل ذلك، هل هو الشرك الأكبر، الذي فعله قوم نوح ومن بعدهم، إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم، فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب ينكر عليهم ذلك، ويكفرهم، ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله؟ أم هذا شرك أصغر؟ وشرك المتقدمين نوع غير هذا؟ فاعلم: أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه، بسبب أن علماء المشركين اليوم، يقرون أنه الشرك الأكبر، ولا ينكرونه، إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه، كابن إسماعيل، وابن خالد، مع تناقضهم في ذلك، واضطرابهم، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر، ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة.
وتارة يقولون: لا يكفر إلا من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة يقولون: إنه شرك أصغر، وينسبونه لابن القيم في "المدارج"، كما تقدم، وتارة لا يذكرون شيئا من ذلك، بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة، وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم العلماء الذين يجب رد الأمر عند التنازع إليهم، وغير ذلك من الأقاويل المضطربة. وجواب هؤلاء كثير، في الكتاب والسنة، والإجماع; ومن أصرح ما يجابون به: إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر; وأيضا: إقرار غيرهم من علماء الأقطار، من أن أكثرهم قد دخل في الشرك، وجاهد أهل التوحيد، لكن لم يجدوا بدا من الإقرار به لوضوحه.
المسألة الثانية: الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر، ولكن لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة، وكذب الرسول، والقرآن، واتبع يهودية، أو نصرانية، أو غيرهما، وهذا هو الذي يجادل به أهل الشرك والعناد في هذه الأوقات، وإلا المسألة الأولى قل الجدال فيها - ولله الحمد - لما وقع من إقرار علماء المشركين بها. فاعلم: أن تصور هذه المسألة تصورا حسنا، يكفي في إبطالها من غير دليل خاص، لوجهين:
الأول: أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام، لا تأثير لها في التكفير، لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها، وكذب الرسول والقرآن، فهو كافر، وإن لم يعبد الأوثان، كاليهود.
فإذا كان من انتسب إلى الإسلام، لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر، لأنه مسلم بقول: لا إله إلا الله، ويصلي، ويفعل كذا وكذا، لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير، بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة، والعمى والعرج، فإن كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر؛ وهذه فضيحة عظيمة، كافية في رد هذا القول الفظيع.
الوجه الثاني: أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرك وعبادة الأوثان، بعد بلوغ العلم، كفر صريح بالفطر والعقول، والعلوم الضرورية؛ فلا يتصور أنك تقول لرجل، ولو من أجهل الناس، وأبلدهم: ما تقول فيمن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك، ممن يدعي أنه مسلم متبع؟ إلا ويبادر بالفطرة الضرورية، إلى القول: بأن هذا كافر، من غير نظر في الأدلة، أو سؤال أحد من العلماء.
ولكن لغلبة الجهل، وغرابة العلم، وكثرة من يتكلم في هذه المسألة، من الملحدين، اشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين، الذين يحبون الحق، فلا تحقرها، وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية، لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت، ويجعلك أيضا من الأئمة الذين يهدون بأمره.
))
قال ابن عبد الوهاب في الدرر(9/426):
((فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها، ويزيد المؤمن يقينا، ما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء بعدهم، فيمن انتسب إلى الإسلام،
كما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعث البراء معه الراية، إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله، ويأخذ ماله;
ومثل، همه بغزو بني المصطلق، لما قيل له إنهم منعوا الزكاة،
ومثل: قتال الصديق والصحابة، لمانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، وتسميتهم مرتدين،
ومثل: إجماع الصحابة في زمن عمر، على تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا، لما فهموا من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة المائدة آية: 93] حل الخمر لبعض الخواص.
ومثل: إجماع الصحابة رضي الله عنهم في زمن عثمان على تكفير أهل المسجد، الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة الكذاب، مع أنهم لم يتبعوه، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم،
ومثل: تحريق علي رضي الله عنه أصحابه، لما غلوا فيه، ومثل إجماع التابعين، مع بقية الصحابة، على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه، مع أنه يدعي أنه يطلب دم الحسين وأهل البيت.
ومثل: إجماع التابعين ومن بعدهم، على قتل الجعد بن درهم، وهو مشتهر بالعلم والدين؛
وهلم جرا من وقائع لا تعد ولا تحصى، ولم يقل أحد من الأولين والآخرين، لأبي بكر الصديق أو غيره، كيف تقاتل بني حنيفة، وهم يقولون: لا إله إلا الله، ويصلون ويزكون؟ وكذلك: لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه، لو لم يتوبوا، وهلم جرا، إلى زمن بني عبيد، الذين ملكوا المغرب، ومصر، والشام وغيرها، مع تظاهرهم بالإسلام، وصلاة الجمعة والجماعة، ونصب القضاة والمفتين، لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا، لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم، ولم يتوقف فيه، وهم في زمن ابن الجوزي والموفق، وصنف ابن الجوزي كتابا لما أخذت مصر منهم، سماه "النصر على مصر"، ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين، أن أحدا أنكر شيئا من ذلك أو استشكله، لأجل ادعائهم الملة، ولأجل قول لا إله إلا الله، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام، إلا ما سمعنا من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان، مع إقرارهم أن هذا هو الشرك، ولكن من فعله أو حسنه، أو كان مع أهله، أو ذم التوحيد، أو حارب أهله لأجله، أو أبغضهم لأجله، أنه لا يكفر، لأنه يقول: لا إله إلا الله، أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها الإسلام. هذا لم يسمع قط، إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم، أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق، فليذكروه؛ ولكن الأمر، كما قال اليمني في قصيدته:
أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا ... تساوى فليسا إن رجعت إلى النقد))